التصنيفات
ahvalnews مقالات

سنوات النضال تطوق عنقي بديون ليتامى الأكراد | أحوال تركية

لعلنا كنا في أوائل تسعينات القرن العشرين، ليلة الاحتفال بعيد الأضحى. كنت في طريقي للبيت، وكان المدخل المؤدي إلى الحي الذي نقطن به مغطى بالدماء، لذا أخذت طريقي والهم يلازمني، فلقد فعلوها مرة أخرى وأراقوا دماء الأضاحي على قارعة الطريق.

سرت متجاوزة أنهار الدم التي نالت رغم ذلك من سروالي. لقد كانت الدماء في كل مكان.

مع اقترابي من منزلي، تناهت إلى مسامعي صرخات وأصوات استغاثة،  وأردكت أن في الأمر خطبا ما، فانطلقت أركض.

لقد قتلوا جارنا، العم عدنان، الذي كان يدير متجرا للبقالة في المنطقة،  لمجرد أنه كان يبيع صحيفة أوزجور جونديم المؤيدة للأكراد.

لقد كانت تلك الدماء على سروالي دماؤه. ركضت إلى الحمام وحاولت تنظيف البقع، لكن دماء العم عدنان كانت عصية على الغسل.

كان والدي يبيع الخضروات، ونشأنا نحن وأبناؤه العشرة في غرفة واحدة، وكان يعمل بكد فأدخلنا الجامعات وواصلنا دراستنا.

أصبحت باحثة مساعدة في جامعة بلكنت بعد تخرجي من قسم العلوم السياسية في أنقرة، لكني قررت العودة إلى موطني في ديار بكر في أواخر التسعينات.

على مدار سنوات توليت إدارة برامج لمكافحة الفقر تمولها الأمم المتحدة. وأنشأنا مؤسسة لضحايا التهجير القسري. وبعد رحيل الأمم المتحدة، عملت في قرى تم تهجير أهلها قسرا وأحرقت في عملية عسكرية نفذها الجيش التركي ردا على هجمات لمسلحين أكراد وفي قرى يسيطر عليها حراس موالون للدولة.

لم تقتصر محاولاتي لمكافحة الفقر على الأقاليم الكردية، بل كذلك في قرى فقيرة في عموم منطقة أناتوليا.

باشرت الكتابة قبل سبع سنوات، قبل بدء عملية السلام التي أطلقتها الحكومة التركية لحل الصراع الكردية. كان ذلك في العام 2012، وكنت أعمل في إقليم بيتليس الغربي في قرى أُجلي أهلها خلال الصراع وأثناء محاولات أهلها للعودة إلى ديارها قبل أن تمنعهم قوات الأمن.

أردت أن أنقل للعالم ما يمر به أهل القرى.

لذا بدأت أكتب، وبعد ذلك بدأت عملية السلام. ساهمت في إنشاء معه ديار بكر للأبحاث السياسية والاجتماعية، وكان هدفه دراسة الجوانب المتعددة للقضية الكردية، من مطالب التعليم باللغة الكردية إلى نظام حراسة القرى، ونشرنا نتائج دراساتنا للناس.

وحين بدأت مذابح تنظيم الدولة الإسلامية في أغسطس عام 2014، سافرت إلى العراق وعملت هناك وكذلك في تركيا في معسكرات أنشئت لإيواء اللاجئين من اليزيديين الفارين من فظائع التنظيم.

وعلى مدى سنوات من العمل الشاق مع ناشطات، أنشأنا ملجأ لنساء يزيديات تم إنقاذهن من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية وتوفير خدمة طبية لهم.

انهارت العملية السلمية عام 2015، وأرسلت الدولة التركية قوات مسلحة لقتال المسلحين في مدن مركزية، ففرضوا حظر تجول في غاية الصرامة بل ولجؤوا لتدمير مساحات كبيرة من المدن.

بذلنا قصارى جهدنا ليعلم العالم بما جرى بينما كنا ننظم جولات للدعم إلى المنطقة، ومبادرات معارضة للحرب.

وفي نفس الوقت، عملنا على إنقاذ الناس ممن أجبروا على الاختباء من القتال في الأقبية.

وخلال تلك الفترة، بدأت تصلني العديد والعديد من التهديدات.

واجهت تهديدات ومحاولات تشويه من قبل قوات الأمن بسبب ما كتبته عن انتهاكات لحقوق الإنسان، لكني في الوقت نفسه، وصلتني جميع أشكال الإساءة من مجموعات أخرى لرفضي نزع شعارات أو التعبير عن وجه إنساني للحرب.

كان هناك أناس ممن لم يشعروا بارتياح لطريقتي في تذكر فضائل الموتى. كان أحد أسوأ جوانب الحرب أن من يعيشون أحداثها،، ومن يفقدون حياتهم فيها، يبقون في العادة مجهولين.

ربما تطلق عليهم أوصاف من قبيل الخائن أو الإرهابي أو البطل، لكنهم يبقون مجرد رقم.

تسيء الحرب للحياة الآدمية وتحولها إلى شيء يمكن تجاوزه.

كنت أبكي أحيانا، وأفقد توازني أحيانا أخرى، لكني واصلت العمل. دفعت ثمن كل هذه الأشياء في الطريق. أصبحت “إرهابية” بسبب كتاباتي عن حقوق الإنسان، واتهمت برثاء من يفقدون حياتهم.

غير أن هذا لم يكن كافيا، لذا استهدفوا أيضا كوني امرأة، فأخذوا يعرّضون بما آكله وما أرتديه ومكان إقامتي.

نالت مني جميع صنوف الإساءة في كل جزء من المجتمع. لقد وصل بهم الأمر لحد اتهامي باستغلال عذابات الأكراد لنيل الشهرة. نعم صحيح، لقد نلت الشهرة فجعلوا مني “إرهابية”.

أساؤوا حتى إلى شكلي ومظهري على وسائل التواصل الاجتماعي.

قليلون فقط من وقفوا متصدين للحملة التي شنت ضدي، لأن كثيرين وجدوا صعوبة في انتقاد ذويهم.

بكيت كثيرا، بكيت مرارا، وأصابني الإحباط، لكني وفي قلب كل هذا، بقيت صامدة وظللت واقفة على قدمي.

لم أتوقف أبدا عن زياراتي الدورية إلى الجزيرة أو شرناق أو نصيبين، وهي مدن من بين الأكثر تضررا من الصراع، ولم أتوقف عن لقاء سكان تلك المدن ممن فقدوا أطفالهم، ولم أتوقف عن نقل انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت هناك.

على مدار سنة ونصف خلت، تعرض منزلي للمداهمة ثلاث مرات. وتصلني العديد من التهديدات كل أسبوع. كل هذا ولا يزال البعض يتهمني بالعمل لصالح السلطات بما أن الشرطة لم تلق القبض علي في أي مرة من تلك  المداهمات.

واجهت جميع صنوف الازداء من السلطات من جهة، والمضايقات والسخرية من وراء حسابات مجهولة على وسائل التواصل الاجتماعي من جهة أخرى. حسابات استهدفتني بشكل شخصي أنا وطفلي الاثنين وتداولت صور منزلنا عديد المرات.

هؤلاء الأشخاص لم يشعروا بأي مشكلة من تشويه شخص لم يلتقوه يوما. وخلال تلك الفترة، أدار أفراد من عائلتي وكثير من أصدقائي ظهورهم لي متأثرين بما سمعوه.

بل إن الخوف منع البعض حتى من إلقاء التحية. كانت فترة صعبة، لكني مرة أخرى، بقيت واقفة على قدمي. احتضنني أهل الجزيرة وسور، وكذلك كثيرون من مختلف أنحاء العالم.

لقد تعلمت الكثير خلال هذه الفترة، الكثير عن الإنسانية، والضمير، وعن معنى أن تكون شخصا صالحا.

كانت لي أخطائي أيضا، لكن يمكنني بكل أريحية القول إني لم أخطيء في حق أحد أو أسيء إليه عن عمد.

في كل مرة كنت فيها شاهدة على انتهاك لحقوق الإنسان، كنت أرفع صوتي وأجهر بالرفض، مهما كانت تهديداتهم لي.

وفي الوقت نفسه، وضعت قواعد عائلتي الجديدة الكبيرة، من الأكراد والأتراك والأرمن واليزيديين، وبالطبع من كل من له ضمير أيا كان موقعه من العالم.

لقد كان وجودهم ما أبقاني على قدمي واقفة.

من المستحيل أن نربح الصراع دون أن نُسمع العالم صوتنا تاركين الآخرين يرتكبون الأخطاء دون حساب.

ولا يمكن أيضا لكل منا الدفاع عن حقوق الإنسان في مسقط رأسه.

لطالما فكرت في حقوق الإنسان، وفي المساواة والحرية والسلام، باعتبارها أشياء يجب الجهر بالحديث عنها للأجيال المقبلة. هذا فقط هو طريقنا لنربح هذا الصراع من خلال المطالبة بنفس الحقوق للجميع دونما تمييز.

لذا، سأواصل النضال على الجبهة وسأرفع صوتي مطالبة بهذه الحقوق ومطالبة بما أؤمن به. أنا الآن في الخارج، لكني لا أعرف ما الذي سيصيبني حين أعود.

لكن الحياة قصيرة، وستنتهي يوما ما. وحين تنتهي، أريد أن يكون بمقدوري فعل شيئين: الأول أن أكون قد نجحت في أن أصبح صوتا للمهمشين وفي المساهمة في الحفاظ على التاريخ بالتعاون مع آخرين يشاركونني الاهتمام.

والشيء الثاني أن أكون أما يفخر بها أبناؤها.

لقد مرت السنون، ولا تزال الدماء ملتصقة بسروالي. أنا مدينة لأطفال العم عدنان ولكل يتامى الأكراد.

نحن ملتزمون بإزالة هذه الدماء، إن كان هذا لزاما ليكون المستقبل أفضل لأطفالنا.

أعرف أني لا أقف وحيدة في هذه المعركة، فهناك ثمة شخص ما في كل بقعة من العالم يعمل على تنظيف سروال أحدهم من دماء أسالتها آلات القمع.

وحتى إن لم يسبق لنا اللقاء وجها لوجه، فإن بداخلي ما يؤكد لي أننا أسرة واحدة.