التصنيفات
مقالات

“السجناء” الجدد في تركيا

في العطلة الأسبوعية الماضية، اتصلت بي إحدى صديقاتي من اتحاد الصحفيات الإيطاليات ودعتني إلى المشاركة في منتدى للصحفيين سيعقد في روما في مارس.
أبلغتها بكل أسف أنني أخضع للمراقبة القضائية، أي أن علي الذهاب إلى مركز الشرطة مرة في كل شهر، وأنني ممنوعة من السفر، وبالتالي لا يمكنني مغادرة البلاد.
أصابتها الصدمة. لم يكن سهلا عليها استيعاب كيف يمكن فرض حظر للسفر دون حكم قضائي. وقلت لها: “صدقيني، من الصعب علي أيضا فهم ذلك”.
ويخضع مئات الآلاف من الأشخاص في تركيا حاليا لهذه المراقبة القضائية وحظر السفر. وتم فتح تحقيق ضدي بسبب تغريدات لي ضد الهجوم التركي على منطقة عفرين السورية التي يسيطر عليها الأكراد.
وبعد ثلاثة أيام من الاعتقال، أفرج عني بكفالة، لكن تم منعي من السفر أيضا. قال لي محامي “نورجان، أهلا بك في مجتمعنا الجديد. مجتمع المحظورين!”.
ويخضع محامي وطبيبي ومعلمو أبنائي وجيراني وأصدقائي وآلاف المعلمين والأكاديميين والمسؤولين العموميين السابقين وكثير من السياسيين الأكراد ونشطاء وقادة منظمات غير حكومية وحتى عمال النظافة الذين طردوا من وظائفهم في البلدية منعوا من السفر ويخضعون للرقابة القضائية. وما أنا إلا واحدة من “المحظورين”.
لكن البعض لم يحالفهم الحظ مثلي.
فالذين طردوا من وظائفهم بموجب مراسيم الطوارئ أصبحوا منبوذين ولم يعودوا قادرين على إعالة أسرهم.
وانتحر البعض أو خاضوا مخاطر شديدة لمغادرة البلاد. قبل نحو أربعة أيام، وبينما كانت تحاول مغادرة البلاد، فقدت عائشة عبد الرزاق المعلمة التي طردت من عملها، حياتها مع طفليها الصغيرين في نهر ماريتسا بين تركيا واليونان. لو كان معها جواز سفرها، لكانت هي وطفلاها على قيد الحياة اليوم.
وعندما ننظر في الدستور التركي، نجد أن المادة 15 تنص على حدود تعليق الحقوق الأساسية والحريات. تقول إن الإجراءات التي يتم اتخاذها يجب أن تكون متوافقة مع شدة الموقف ومتوافقة مع التزامات تركيا الدولية. وعلاوة على ذلك، هناك حقوق لا يمكن بأي حال سلبها حتى في الأوضاع الاستثنائية مثل الحرب والتعبئة العسكرية والأحكام العرفية وحالة الطوارئ.

“لا يجوز انتهاك حق المرء في الحياة، وسلامة جسده وعقله… لا يجوز إجبار شخص على الكشف عن دينه أو دينها، أو ما في وجدانه أو أفكاره أو آرائه أو توجيه اتهام له بسبب ذلك، لا يجوز أن تكون الجرائم والعقوبات بأثر رجعي، كما لا يجوز إدانة شخص إلا بعد إثبات ذلك بحكم قضائي”.
بعد إعلان حالة الطوارئ في 20 من يوليو 2016، تم وقف أكثر من 150 ألف موظف عمومي عن العمل أو فصلهم دون أي تحقيق أو حتى إمكانية الطعن القضائي. وتم إلغاء جوازات سفر المفصولين من العمل وجوازات سفر أزواجهم وأبنائهم.
ويتنافى هذا مع الحق في حرية الحركة الذي تحميه المادة 23 من الدستور والمادة 12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والبروتوكول الإضافي رقم أربعة للاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان التي وافقت عليها الحكومة التركية في 1994.
ولا علاقة لإلغاء جوازات السفر وكذلك حظر السفر بحقوق الإنسان. فالحكومة التركية تعاقب من تعتقد أنهم لا يؤيدون سياساتها. وفي يومنا هذا، بات حظر السفر وإلغاء جوازات السفر والقيود القضائية نوعا جديدا من العقاب في تركيا.
وكان أمس أول “توقيع” لي بموجب المراقبة القضائية. ذهبت إلى مركز الشرطة وكان مزدحما للغاية. كان هناك كثيرون، رجال ونساء معهن أطفال، وأطباء ومعلمون ورجال أعمال وسياسيون وطلاب ومسؤولون سابقون بالدولة وموظفون بالبلديات. كان الناس يدخلون ويتجهون مباشرة إلى الرف الذي توضع عليه الملفات، ثم يفتحون ملفاتهم ويوقعون فيها ثم يسلمونها لضابط الشرطة ليشهد على وجودهم. بعد ذلك يعيد هؤلاء “السجناء” ملفاتهم إلى الرف ثم يغادرون. وكل “سجين” له رقم. علمت أن معظمهم يوقعون يوميا. أبلغني ضابط الشرطة أنني محظوظة لأنني يجب أن أذهب مرة واحدة فقط في الشهر. وشرح لي الإجراءات.
وأوضح لي أيضا أنه بدءا من اليوم فأنا “نورجان 15/15!”
لا أحد يعلم في الحقيقة عدد هؤلاء “السجناء” الجدد على وجه الدقة. وهناك تقديرات بأنهم أكثر من 200 ألف شخص. وفي هذا النوع الجديد من السجون، حدود تركيا هي الجدران.
وهؤلاء “السجناء” الجدد غير مرئيين!.