التصنيفات
مقالات

الألغام التركية ومُخلفات الحروب تحصد المزيد من أطفال الأكراد

قُمتُ قبل عامٍ ونصف بزيارة منزل زيلان، بصحبة رئيس البلدية، في ذلك الوقت، سارة قايا، التي تقبع حاليًا في سجن مدينة نُصيبين في تركيا.
اعتاد ديلان، الذي يبلغ من العمر اثني عشر عاماً، وأخته زيلان ابنة الحادية عشرة (وهي مقيدة في بطاقتها الشخصية باسم فهيمة) أن يذهبا بصحبة اثنين من أبناء عمهما، في أوقات حظر التجوال – مثل باقي الأطفال في مدينة نُصيبين- إلى الأحياء المُهدَّمة؛ كي يجمعوا قطع الخُردة؛ ليقوموا ببيعها بعد ذلك.
كانوا يعثرون، بين قطع الخردة، على قطعٍ بيضاوية الشكل، صفراء اللون، من بقايا الاشتباكات التي جرت في هذه المنطقة. لم يعلموا أن هذه القطع ما هي إلا قنابل لم تنفجر عند إلقاءها. كان هؤلاء الأطفال يمسكون بها، ويقلبونها بين أيديهم، ثم يلقون بها بعيدًا عندما يدركون أنها ليست مصنوعة من الحديد. لم يدرك هؤلاء الأطفال، في هذه المرة، أن هذه القطع ستخلف هذا القدر من الانفجار الضخم، بمجرد ملامستها الأرض. رأوا أمام أعينهم الأطفال الآخرين، وقد مزقتهم هذه القنبلة إربًا، في الوقت الذي أثخن ديلان في جراحه.
عندما توجهتُ لزيارة منازل هؤلاء الأطفال، لم يكن قد مر على هذا الحادث سوى أسبوع واحد.
استقبلتنا الأم لدى الباب. كانت الأسرة قد انتقلت إلى هذا المنزل منذ عدة أشهر فقط. كانت منازلهم في أحد الأحياء التي فُرض عليها حظر التجوال. لم تلبث أن تهدَّمت هذه المنازل، مما اضطر أفراد هذه الأسرة إلى النوم على أرصفة الطرقات عدة أيام؛ حتى تَدَخَّل الجيران، وقدَّموا لهم مساعدةً؛ مكَّنتم من توفير هذا المنزل الصغير، الذي يتكون من غرفةٍ واحدة.
لم يكن لهذا المنزل الصغير سقف يستظلون تحته؛ إذ كانوا يستترون تحت قطعة من المُشمَّع. أما فناء المنزل، فكان ممتلئاً عن آخره بقطع الخُردة. رأينا، عند دخولنا إلى المنزل، طفلتين صغيرتين؛ كانتا في طريقهما إلى المنزل كذلك، وفي يد كل منهما طبق كبير، من تلك التي تستخدم في غسيل الملابس. كان بداخل الطبقين قطع خبزٍ قديمة عَفِنَة.
أخذت الأم تحكي عن زيلان من بين دموعها التي انهالت بغزارة، وقد احتضنت طفلها الرضيع، وإلى جانبها كان هناك طفل يتراوح عمره بين عامين أو ثلاثة، يجلس بجوار طفلتين أخريين، وقد جلسوا جميعًا معنا. كانت الأم تحكي، وهي تشهق بشدة: بدأ الأطفال يعملون في تجارة الخردة، عندما تهدَّمت بيوتهم. كان ديلان وأخته زيلان يودَّان أن يشتريا ملابس جديدة مع اقتراب العيد. لهذا السبب توجها، في ذلك اليوم، لجمع قطع الخُردة؛ على أمل توفير المال اللازم لشراء مستلزمات العيد. ظن الطفلان في البداية أن هذا الشيء المعدني، بيضاوي الشكل، مصنوعٌ من الحديد، وعندما دققوا النظر أدركوا أنه ليس كذلك، فقاما على الفور بإلقائه من بين أيديهما، ثم صار ما صار، وتناثرت الأشلاء هنا وهناك…
وفي الوقت الذي كانت فيه الأم تحكي والدموع تنهمر من عينيها، كانت عيناي مركزتين على ديلان، الذي انزوى في أحد الأركان، وقد لُفَّت ساقه بضمادات. كان ديلان صامتاً طوال الوقت، لم ينبس ببنت شفة، حتى سألته قائلةً “هل ساقك تؤلمك؟” وجاء رده مقتضباً عندما قال “ليس بعد”.
يمكنني أن أقص على مسامعكم عشرات، بل مئات النماذج المشابهة، بحكم عملي، الذي استمر طيلة الأعوام الخمس عشر الأخيرة، التي قضيتها بالقرب من مؤسسات المجتمع المدني العاملة في مجال توعية الأطفال بخصوص الألغام، ومخلفات الحروب. مات من مات جراء مثل هذه الانفجارات، وظل من بقي منهم على قيد الحياة، يشعر بالذنب طوال حياته؛ كمن ارتكب إثماً. ظلت أفكار من قبيل “ليتني لم ألمس هذا الشيء” تطاردهم طيلة حياتهم.
أصبحت قدرة الأطفال، الذين خرجوا سالمين من تلك الانفجارات، على الاستمرار في حياتهم، بشكل سوي، مشكلة في حد ذاتها؛ لأن مشاهدتهم لحظات موت أشخاص يحبونهم، أو فقدان عضوٍ من أعضائهم، ومن ثم تعرضهم لمشكلات صحية، ستلازمهم طيلة حياتهم، ستجعلهم، بكل تأكيد، في صراعٍ نفسي، مع الإحساس بالذنب الذي سيظل عالقًا بأذهانهم ما بقي من عمرهم.
شاهدنا انفجارات مماثلة خلال فترة المهادنة مع السلطة الحاكمة. كنت قد كتبت عبارة “يا خِضر، احمِ أطفالنا!” مستوحيةً إياها من مجلة “جدنا الخِضر”، التي كنا نوزعها على الأطفال خلال حملةٍ؛ قمنا بها لتوعيتهم بمخاطر الألغام، وللفت الانتباه لأعداد الموتى الذين سقطوا خلال تلك الفترة.
كان الأطفال الأكراد يسقطون كل يوم خلال هذه الفترة بسبب الألغام ومخلفاتها. كان هؤلاء الأطفال يعيشون في منطقة ريفية، كانوا يسوقون الحيوانات للرعي في تلك الأماكن، ولم يكن أحدٌ يعلم بأمر وفاتهم في تلك الأثناء. لقد أُضيفت مشكلة الألغام، ومخلفات الصدامات والحروب إلى مشكلة حظر التجوال المفروضة منذ 2015.
لقد امتدت مخلفات الصدامات، هذه المرة، إلى المدن؛ لتطال حياة الأطفال؛ حتى بلغ عدد الأطفال الذين قضوا نحبهم بسبب هذه الانفجارات، في العامين الماضيين فقط، تسعة عشر طفلاً، بالإضافة إلى ستةٍ وثلاثين آخرين تعرضوا لإصابات مختلفة. وهذا يعني أن من هؤلاء الأطفال من فقد عضوًا من أعضائه، في الوقت الذي سيعاني فيه الفريق الآخر من المرض، بالإضافة إلى إحساسهم بالذنب الذي سيظل يقض مضجعهم طوال عمرهم.
التقينا عدداً من المنظمات المعنية بشئون الأطفال، وبعضاً من المسئولين المحليين في بعض المدن التي توقف فيها العمل بحظر التجوال. تناولنا خلال هذه اللقاءات المخاطر التي يتعرض لها الأطفال. يمكننا أن نتحدث، في الإطار نفسه، عن مدينة سور. لم يُسمح لنا بتعليق إعلاناتٍ أو ملصقات؛ لتنبيه السكان هناك بوجود مواد خطرة من مخلفات الحروب والصدامات التي وقعت في هذا المكان. أعلم أنهم لم يسمحوا كذلك بوضع مثل هذه الملصقات في بعض المدن. ومع هذا، فقد تمكنا من إنجاز بعض الأعمال الخاصة بهذا الشأن، في بعض المدن؛ وإن كان هذا قد جاء بمبادرةٍ من رؤساء المؤسسات ومديريها.
وها هي زيلان تقضي نحبها، وتترك خلفها ديلان عليلًا، مشدوهاً من صدمةٍ، لن يتعافى منها ما دام حياً. محمد يموت هو الآخر، ويترك خلفه أخاه المصاب، يتعذب طوال عمره، مع مشاهد تلك اللحظة. يوسف أيضًا فقد ذراعه وساقه، بعد أن داس بقدمه على أحد الألغام، بينما كان يجري خلف دجاجته، بعد إعلان الحظر للمرة الأولى في بلدة جيزرا. لقد ظل شارداً صامتًا حتى يوم زيارتي له في جامعة دجلة في سبتمبر 2015…
وفي الوقت الراهن، تَفْقِدُ بَرات، بنت العاشرة، حياتها في يوكسَكُوفا، وهي تجري خلف كرتها. وما زالت الباقية تأتي…
يتضمن اتفاق حقوق الإنسان، الذي وَقَّعَتْ عليه تركيا، بنودًا واضحة، لا غموض فيها، بهذا الشأن، والتي بمقتضاها: تلتزم الأطراف المتنازعة بإزالة مخلفات الحرب، أو الصدامات المسلحة التي تركتها. وينص الاتفاق كذلك على المسئوليات الخاصة بالألغام، بشكلٍ لا لبس فيه. نعلم أن تركيا وَقَّعَتْ في عام 2003 على اتفاقية أوتاوا، تعهدت بمقتضاها بإزالة الألغام حتى عام 2014، وأنها ستتخذ كل ما يلزم تجاه ضحايا مخلفات هذه الصدامات.
وعلى الرغم من هذا، لم تتخذ تركيا أية خطوات جدية، باستثناء بعض المحاولات الضعيفة، من أجل إزالة الألغام الموجودة على الحدود مع سوريا. لم تأتِ تركيا بجديدٍ، باستثناء طلبها المتكرر بمهلة إضافية، في الوقت الذي توجه فيه كامل طاقتها لبناء ثالث أطول جدار في العالم على حدودها.
يحدث الفساد عندما لا توجه الدولة بؤرة اهتمامها صوب حياة أطفالٍ تمزقوا، وهم يركضون خلف كرةٍ، أو من أجل جمع قطعة من الخُردة من بين ركام المباني مُهدَّمة.
في وضع كهذا، لن يستطيع جدنا الخِضر نفسه أن يفعل شيئاً إزاء هذا العَفَن!

يُمكن قراءة المقال باللغة التركية أيضاً: