نشأتُ في أحد أفقر أحياء ديار بكر، كبرى مدن الجنوب الشرقي في تركيا، حيث أغلبية السكان من الأكراد.
في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، بدأنا نسمع عن شكل من أشكال الصراع المسلح في الجبال بين “إرهابيين” والدولة.
وبعد بعض الوقت، سمعنا أن هؤلاء “الإرهابيين” يعرفون باسم “آبوجي”. كانوا أكرادا وكانوا يقاتلون من أجل حقوق الشعب الكردي.
لا يزال كثيرون من الأكراد غير واعين بما هو حزب العمال الكردستاني، أو “آبوجي” مثلما كان اسمه في السابق. (المصطلح يطلق بالكردية على أتباع حزب العمال الكردستاني. يقال لهم (آبوجيّ – آبوجيّون) نسبة إلى زعيمهم عبدالله أوجلان الذي يكنّى بالكرديّة “آبو” بمعنى “العم”. ينسب أنصاره إليه فيسمّون آبوجيّون، والمفرد منهم آبوجي).
في الثمانينيات، سالت الكثير من الدموع وساد حزن كبير، وشهدنا العديد من الجنازات في الحي الصغير حيث كنت أقطن. كان الأطفال يرحلون عن المنطقة ويعودون جثثا.
كان الحزن في أغلبه صامتا. كان الناس خائفين. وبعد مضي العديد من السنوات، لم يكن لدى عامة الناس أي وعي بما يعنيه أن تعاني من أجل القضية الكردية.
وفي مطلع التسعينيات، كان الكل يعرف أن هناك في الجبال حربا. سمعنا عن حزب العمال الكردستاني. كان التلفزيون يذيع كل يوم أخبارا عن حزب العمال الكردستاني. لكننا كنا نعرف أن من يسمونهم “إرهابيين” لم يكونوا سوى أشقائنا وشقيقاتنا، جيراننا وأولاد عمومتنا.
أذكر أن طلابا أكبر سنا في المدرسة جمعوا كتبا عن التاريخ وأحرقوها في الفناء. قالوا لنا إن كتب التاريخ هذه لم تكن تتحدث عنا، نحن الشعب الكردي.
قالوا “هذا ليس تاريخنا، أحرقوها.”
بعد اغتيال فيدات أيدين الزعيم المحلي لحزب العمل الشعبي على يد السلطة في العاشر من يوليو عام 1991، خرج في جنازته مئات الآلاف في ديار بكر.
وأطلقت قوات الأمن النار على الحشود من بنادق كلاشنكوف كانوا يحملونها. قُتل العشرات. لا نزال نجهل حتى الآن عدد من قتلوا في ذلك اليوم. لكن ما حدث بعد ذلك، أن الآلاف من الأكراد الصغار ذهبوا إلى الجبال، ليقاتلوا في صفوف حزب العمال الكردستاني.
خلال عقد التسعينيات، تحول صمت الثمانينيات إلى احتجاج. بدأ الآلاف يشاركون في جنازات الشبان العائدين جثثا من الجبال.
بفخر كبير، كان الآباء يعلنون أن أبناءهم قتلوا من أجل حقوق الشعب الكردي. وأصبحت الاحتفالات المصاحبة لعيد النوروز، أو رأس السنة الكردية، مكانا يتحدى فيه الأكراد الدولة، ويعبرون عن أنفسهم ومطالبهم ويظهرون قوتهم.
خلال تلك الأيام، كانت هناك تفجيرات، وأعمال قتل، واختفاء قسري في قلب المدن، لكن حتى عام 2015 كان الصراع المسلح بين الدولة وحزب العمال الكردستاني مقتصرا على الجبال.
ففي 2015، انتقلت الحرب إلى قلب المدن، وبدأت اشتباكات عنيفة بين جناح الشباب التابع لحزب العمال الكردستاني والدولة. وأعلن حظر تجول في وسط المدن.
وتعرض حي سور؛ ذو الطابع التاريخي في وسط مدينة ديار بكر، لقصف مكثف من قبل القوات الحكومية على مدى مئة يوم. في تلك الفترة حوصر آلاف الأشخاص في سور داخل بيوتهم.
أثناء القصف، انتقد كثيرون ممن يعيشون خارج المنطقة الكردية سكان ديار بكر بسبب جلوسهم على المقاهي.
حتى دعاة الديمقراطية، والصحفيون، والكتاب الذين زاروا المدينة لبضعة أيام، كتبوا أن الحياة استمرت خارج سور، وأن معاناة الناس في ديار بكر لا تختلف.
تساءل أحدهم “بينما سور تحت القصف، يجلس الناس لتناول القهوة. أي نوع من البشر هؤلاء؟”.
لم يكن لديهم أي معرفة بما يعنيه أن تعيش في أتون حرب. الحياة تستمر حتى في زمن الحروب. حين تسقط القذائف، تتوقف الحياة لدقيقة، لكنها بعد ذلك تستمر.
يذهب الأطفال إلى المدرسة والآباء إلى العمل ويُنقل المرضى إلى المستشفيات، ونتناول القهوة، وأحيانا نتبادل المزاح تحت القصف، في قلب الاحتجاجات وأثناء إلقاء قنابل الغاز.
الحرب جزء من حياتنا. نحن نعرف أننا بشر وأننا إلى زوال. هذا شعور لا يفارقك طيلة الوقت.
أذكر أن إحدى صديقاتي اصطحبت ابنها الصغير إلى السينما ذات يوم أثناء القصف.
قالت لي”صوت القصف لم يتوقف مطلقا. كنا حبيسي المنزل لأسابيع وكانت حالة ابني تزداد سوءا. كان يظن أنه سيموت. مع كل قنبلة تسقط، كان يقفز ليختبئ أسفل طاولة الطعام وهو يصرخ مناديا عليّ قائلا إنه يموت.
“حسبت أن من الأفضل أن نخرج؛ ربما يكون في هذا بعض المساعدة للأطفال. اصطحبتهم إلى السينما. وبينما كنا نشاهد الفيلم فكرت أنه من الرائع فعلات ألا تسمع صوت القنابل ولو لبضع ساعات. بعدها بدأت أبكي، أنا شخص سيء فعلا. فالقنابل الآن تسقط على الناس في الخارج، ويموتون بينما أشاهد أنا فيلما في السينما. شعرت بالخزي.”
في كل يوم خارج سور كان بضعة أشخاص يموتون، وهم يحتجون على من يموتون في القصف. كانت سحب الدخان التي تسببها قنابل الغاز تلُفُ المدينة.
لكن الحياة استمرت رغم أصوات القنابل والبنادق والعربات المدرعة، كلها معا كانت تصنع صوتا لا يمكن الفرار منه؛ صوت الموت.
اليوم لا قنابل تسقط على وسط المدن. لكنّ هناك ضغطا هائلا من الدولة، وآلافاً في السجون، والاعتقالات مستمرة، والناس يعيشون في خوف. مرة أخرى يعيش الناس في خوف.
من يعيشون اليوم خارج هذه المنطقة ينتقدون هذا الصمت.
لكن لهذا الصمت العديد من الأسباب: الضغط الذي تمارسه السلطات، ورؤية كل هذه القسوة المفرطة، ومقتل الشبان الصغار هكذا ببساطة. هناك صمت، نعم، لكن الناس يئنون.
أغلقت العديد من منظمات المجتمع المدني، وبعضها فتح أبوابه مرة أخرى، لكن في صمت. يواصل الناس أعمالهم ويدعمون بعضهم بعضا في صمت. فالكفاح لا يجب بالضرورة أن يكون في الشوارع.
حين تعيد فتح إحدى منظمات المجتمع المدني، فهذا كفاح. وحين تستمر في الكتابة، فهذا كفاح.
نهر الحرية يتدفق، ربما ليس بذات القوة في هذه اللحظة.
وسط كل هذه القسوة، نقف نحن شعبا يرفض الرحيل عن أرضه، شعب لا يزال موجودا ولا يزال كفاحه مستمرا.
نعم، لا نزال نشرب القهوة!
التصنيفات