التصنيفات
مقالات

الأكراد ليسوا وحدهم.. عندما أصبح نصف سكان تركيا من “الإرهابيين”

نُشر في جريدة جمهورييت الأسبوع الماضي مقال للرئيس المشارك “لاتحاد القضاة والمدعين من أجل الحرية والديموقراطية”، أورهان غازي أرتكين، حيث ألقى الضوء، من خلال هذا المقال، على توظيف القانون الجنائي؛ لإلصاق تهم الإرهاب بالمواطنين، مستشهداً بنماذج عديدة من التاريخ. يشرح القاضي أورهان غازي، في مقاله، كيف أننا جميعًا أصبحنا إرهابيين من وجهة نظر السلطة الحاكمة في تركيا اليوم، ويتعرض لمفهوم كلمة “إرهابي” لديهم. أُوصي الجميع بقراءة هذه المقالة.
أما أنا، فدعوني أتناول موضوع “كيف يتحول الإنسان إلى إرهابي”، من وجهة نظري الخاصة، اعتماداً على مشاهد حية من حياتنا اليومية.
مما لا شك فيه أننا – نحن الأكراد – لدينا من الخبرات، التي تستند إلى فترات من الماضي، ما يفوق ما لدى الأتراك. أتذكر أنني بدأت أسمع كلمة “إرهابي” في الثمانينيات، حين كنت طفلة؛ إذ كانت قناة (تي أر تي) التركية الرسمية أول قناة شاهدتها تستخدم هذه الكلمة، في عبارة “يجري الآن محاربة أنصار عبد الله أوجلان على الجبال” (عبد الله أوجلان هو مؤسس حزب العمال الكردستاني عام 1978، وأول زعيم له. وهذا الحزب حزب يساري، يسعى لشكل من أشكال الاستقلال عن السلطة، ولبناء مجتمع يصفه بأنه “بيئي ديمقراطي متحرر”).
أقولها بحق، كان الجميع شغوفين بمعرفة المزيد عن “الإرهابيين أنصار عبد الله أوجلان”. لقد شغل هذا الموضوع جميع الأتراك من سكان القرى إلى مراكز المدن.
لم تعد هناك ضرورة لقولهم إنهم يحاربون الإرهابيين على الجبال؛ فقد تحول الأكراد من سكان القرى والمدن، بمرور الوقت، إلى “إرهابيين”. وبالطبع هناك فرق بين الإرهابيين من سكان القرى، والإرهابيين من سكان المدن. فبينما تُهدَّم البيوت فوق رؤوس القرويين، الذين تحولوا إلى إرهابيين، تحت زعم “أنهم يمدون أنصار حزب العمال الكردستاني بالماء والطعام”، أو لأنهم “رفضوا الحراسة التي تفرضها عليهم الدولة”، نجد أن سكان المدن تحولوا، هم أيضاً، إلى إرهابيين، تحت ذريعة أن بعضاً منهم “يبيعون جريدة أوزغور غوندام الموالية للأكراد”، أو بسبب “انضمامهم لحزب سياسي كردي”، أو لأنهم يناضلون من أجل “حقوق الإنسان”.
والواقع أن للدولة الكثير من المبررات التي تذرعت بها؛ كي تلصق صفة “إرهابي” بهذا الشخص أو بذاك. إن مجرد التحدث باللغة الأم، أو ارتداء عصابة شعر بألوان الأصفر والأحمر والأخضر تكفي لإلصاق صفة “إرهابي” بالشخص. لقد أخبرني أحد الأئمة في قريتي تاتفان، وكَفَار، التي عملت بها لسنوات، كيف تحوَّل إلى إمام “إرهابي”، حيث قال:
“كان أنصار حزب العمال الكردستاني يتجولون في أنحاء البلاد، ومع هذا لم يكن لقرانا تلك علاقة بهم. كانوا يستدعونني إلى مخفر الشرطة كل يومين أو ثلاثة. كانوا يقولون لبعضهم البعض “أحضروا ذلك الإمام الإرهابي!”. أصبحتُ إرهابياً دون أن أعرف ما هو المقصود بكلمة “الإرهابي “.
وكانت النتيجة هي وصم هذا الإمام بصفة “الإرهابي”، وهدم قريته، وتهجير سكانها، وقتل أقربائه وأحبائه. وبالطبع كان الفاعل مجهولاً.
مضى وقت طويل، منذ التسعينيات إلى الآن، نُحِّيَتْ خلاله كلمة “إرهابي” جانباً خلال هذه الفترة. ولكن ما لبثت الحكومة أن أعادت توظيف هذه الكلمة مرة أخرى بعد عام 2015، بشكل يتوافق مع سياستها الصدامية التي تنتهجها إلى الآن.
وبالتزامن مع هدم المدن فوق رؤوس سكانها، بدأت صفة “الإرهابي” تُطلق على أولئك الذين ينتقدون “قتل المدنيين”، و “أولئك الذين يريدون السلام”، أو حتى الذين ينددون بقتل الأطفال رافعين شعار “لا تقتلوا الأطفال!”. وفي نهاية عملية مطاردة الأشباح تلك، التي مضى عليها ثلاث سنوات، لم يفلت أحد اليوم، في هذا البلد، من أن يوصف بصفة “إرهابي”، حتى وإن كان يناضل من أجل أغلى القيم البشرية، مثل السلام والمساواة والعدالة والحرية.
لم ينج أحد بنفسه، فالجميع أُلصقت بهم صفة “الإرهابي”، سواء أولئك الذين ينتقدون سياسة الحرب والعنف، التي تنتهجها الحكومة، أو الذين ينادون بالسلام، والمساواة، والعدالة، من “دميرطاش” حتى “عثمان كفالا” (رجل أعمال وناشط في مجال حقوق الإنسان، احتجزته الحكومة التركية قيد التوقيف الاحترازي، في انتظار محاكمته بالتورط في محاولة الانقلاب الفاشلة)، ومن المدافعين عن حقوق الإنسان إلى المحامين، ومن رؤساء البلديات إلى الكُتّاب والصحفيين.
لم ينج حتى الذين لا يطالبون بهذه القيم بصوت عالٍ في “تركيا الجديدة” من اللحاق بقطار الإرهابيين كذلك. إننا نعيش في بلدٍ يعتبرك “إرهابيًا” و”خائنًا للوطن”؛ لمجرد الصفير، أو الترنم بأغنية كردية، أو توجيه إهانة إلى أردوغان، أو عندما تشتري دولارات، في الوقت الذي تطالب فيه الحكومة المواطنين باستبدالها بالليرة التركية، أو عند التحدث مع شخص من خلال شبكة تليفون محمول بعينها، أو عند استخدام تطبيق هاتفي معين، أو عندما تنتقد ممارسات الحزب الحاكم، أو عندما تسأل أحد أقرباء الشهيد في الجنازة، وتقول “لماذا قُتِل ؟”
إنهم يُضيفون الجديد كل يوم لتعريف كلمة “إرهابي”؛ ففي الأسبوع الماضي فقط، تم اعتقال تسعة من مجموع خمسة عشر طالبًا من جامعة بوغاز إيجي، بذريعة أنهم كانوا يحتجون على تصرف الطلاب الذين قدموا الحلويات؛ لدعم العملية العسكرية في عفرين.
وفي أعقاب حملة الاعتقالات، التي قامت بها الحكومة في صفوف الطلاب، تساءل البروفيسور فاروق بيرتك، وهو أحد أعضاء هيئة التدريس بالجامعة، قائلاً “ما مصير هؤلاء الطلاب؟”، حيث ذكر:
“تعرضت جامعتنا للاغتصاب من الخارج. لا علاقة لهؤلاء بالإرهاب. كلهم طلابي. ستكشف التحقيقات أنهم جميعاً أبرياء، لكن حتى هذا الحين سيستمر احتجازهم لسنوات قادمة. أبكي لأجل هؤلاء. ينبغي أن نكون إلى جوارهم في محبسهم، كما كنا معهم في قاعات الدرس”.
إن طلابنا، طلاب تركيا الذين يدرسون في الجامعات، أغلى من الماس، ومع هذا فقد اقتحم ثمانية من الملثمين في الخامسة فجراً منازلهم، بعد أن قاموا بكسر الأبواب بآلات حادة؛ من أجل القبض على هؤلاء الشباب، الذين لا تتعدى أعمارهم 18 عاماً. لقد طالبوا جميع من كانوا في البيت بالانبطاح على الأرض. ربما يشعرون الآن بالسعادة، وهو يقولون “حصلنا على إرهابي آخر”. إنه أمر مفجع بحق، أليس كذلك؟!
يتكرر هذا المشهد المفجع كل يوم في حياتنا؛ فقبل أيام تحدث رئيس رابطة سائقي (التاكسي) في اسطنبول، متهماً كل مواطن يركب السيارات التابعة لشركة (أوبر) للنقل الجماعي بخيانة الوطن، حيث ذكر تحديداً:
“كانت بداية (أوبر) من سان فرانسيسكو. والآن هي المكان الذي ينتج الخائنين، الذين يقتلون جنودنا في عفرين. إن (أوبر) هي الوجه الآخر لحزب العمال الكردستاني ولداعش. إن (أوبر) إرهابية”.
باختصار، لقد صار من السهل في هذا الوطن أن تطلق صفة “إرهابي” أو “خائن للوطن” بسهولة.
بالطبع ، يوجد بيننا اختلافات، سواء من ناحية حالة الطوارئ المفروضة على مدننا المُدمّرة، أو من ناحية سجوننا، ولكن ثمة اختلاف آخر بين الأتراك وبين الأكراد من إلصاق صفة “إرهابي” بكل منهما؛ فالأتراك قضوا بعض الوقت حتى أُلصقت بهم صفة “الإرهابي”، في حين نولد نحن الأكراد “إرهابيين”.
ولكن انظر! فالنتيجة واحدة في الحالتين؛ فنصف سكان تركيا الآن أصبحوا من “الإرهابيين”.
والواضح أن موجة التخوين، وإطلاق صفة “الإرهابي” هذه، لن تنتهي عند هذا الحد. يبدو أنهم بحاجة إلى المزيد من “الإرهابيين” و”الخونة”؛ حتى يبرروا لأنفسهم آلة الحرب التي يستهدفون بها الأخضر واليابس.
أمزح مع أقربائي، الذين يقولون لي “أنتِ أيضاً توقفي قليلاً!، هل أنتِ مضطرة إلى كتابة هذه المقالات، اصمتي لبضع سنوات، سافري لأي بلدٍ آخر لبضع سنوات”، وأقول لهم:
“يوماً ما، ستستيقظون من نومكم، وقد أُعلن أن كل من يفضل تناول الجبن والزيتون “إرهابي”. إنهم يعتبرونني إرهابية؛ لأنني أدافع عن حقوق الآخرين وحقوق الإنسان والمساواة والحرية والنضال من أجل الديمقراطية، ولكنكم ستصبحون إرهابيين مثلي أيضاً، لا لسببٍ سوى لأنكم تفضلون تناول الجُبن والزيتون. أيهما أكثر قيمة في نظركم؟ من أجل هذا، أدعوكم أن تنضموا إلينا؛ حتى تكبر همتنا بكم أكثر”.
في رأيي، إن الكلمات التي قلتها إلى أقربائي، على سبيل المزاح، في سبيلها لأن تكون حقيقة واقعة الآن.
هل عشاق الجبن ومحبو الزيتون (بالمناسبة، أنا لا أتصور حياتي من دون الجبن والزيتون) على استعداد لأن يصبحوا إرهابيين مثلي؟.
لا تتعجلوا في إجابتكم، وتقولوا “لا يا عزيزتي”، فالدور آت عليكم لا محالة!

يُمكن قراءة هذا المقال باللغة التركية أيضاً: