التصنيفات
ahvalnews مقالات

في تركيا.. “مدينة نوح” بلا رُوح | أحوال تركية

بعدما أمضيت وقتاً طويلاً بعيدة عنها، أجد نفسي من جديد في مدينة شرناق، عاصمة المحافظة التركية التي تحمل الاسم ذاته، والواقعة جنوب شرقي البلاد. المدينة معروفة أيضاً باسم مدينة نوح، نبي الله الذي بنى الفُلك لينقذ البشرية من الهلاك.
زادت نقاط المراقبة والتفتيش الأمنية على طول الطريق الرئيس الممتد من بلدات نصيبين إلى جيزري، حيث عزز الجيش التركي عملياته ضد متمردي حزب العمال الكردستاني في المنطقة ذات الأغلبية الكردية.
وكما يقول المثل الشعبي، فإن الوصول إلى شرناق أصعب من الدخول إلى بلد أجنبي. ويخلق الاختناق المروري عند مدخل المدينة هذا الشعور في داخل الوطن.
وحالما دخَلْت المدينة، شدّت انتباهي تلك اللافتات الكبيرة المنتشرة في كل مكان، وقد كتبت عليها عبارة “تغيير كبير، وتحول كبير: مدينة نوح تعود إلى الحياة من جديد!” إلى جانب الأعلام التركية التي يصل طولها إلى عشرة أمتار والملصقات التي تحمل صورة الرئيس رجب طيب أردوغان. وهناك بنايات كبيرة شبه مكتملة التشطيب، وأكوام من الركام هنا وهناك. لقد أصبحت شرناق موقع إنشاء كبير.
لقد تغيرت معالم المدينة تماماً؛ وقد كانت آخر مرة رأيتها فيها قبل عام ونصف العام. تنتشر في المدينة بنايات مرتفعة تتألف من أكثر من عشرة طوابق بنتها إدارة تطوير الإسكان (توكي)؛ وقد مُحي كل ما كان متبقياً مما أعرفه في شرناق، وبُنيت مدينة جديدة مختلفة كل الاختلاف.
ومباني توكي هذه شبه مكتملة وترتفع لأكثر من عشرة طوابق. وقد وصل إجمالي عدد الوحدات الجاري بناؤها إلى نحو ستة آلاف وحدة، لكن من غير الواضح من سيسكن هذه المنازل ومتى.
كان الموعد الأصلي للتسليم في نهاية عام 2018؛ لكن من المعتاد السماع عن احتمال تأجيل التسليم لما قبل الانتخابات المحلية التي تُجرى في مارس 2019. وبسبب نقص المنازل، يقيم أكثر من 40 ألف شخص من أهل شرناق – البالغ تعدادهم 65 ألفاً – في بلدات قريبة.
ومن بين جميع المدن الواقعة في جنوب شرقي البلاد، كانت شرناق الأكثر تأثراً بتكتيكات الحصار التي اتبعها الجيش التركي في هجومة الأخير على حزب العمال الكردستاني، والذي بدأ في أواخر عام 2015. جرى تدمير نحو 75 بالمئة من المدينة خلال أعمال القتال بين قوات الأمن وجناح الشباب التابع لحزب العمال الكردستاني، ومن خلال أعمال الهدم التي جرى تنفيذها بعد ذلك. وقال سكان التقيت بهم إن نحو مئتي منزل فقط كانوا بحاجة لإعادة بناء، لكن الدولة أزالت المدينة بأكملها تقريباً.
وهناك شائعات عن أن المنازل السليمة بالكامل حتى تعرضت لحوادث اصطدام متعمدة بالجرافات، ثم أُعلنت غير صالحة إنشائياً، بحيث يمكن لرجال أعمال محليين بعينهم مقربين من الحكومة الفوز بعقود لهدم تلك المنازل وإعادة بنائها.
ولدى العمدة المعيّن من قبل الحزب الحاكم لإدارة أمور شرناق، كما هو الحال في مدن أخرى، اهتمام شخصي بمظهر المدينة؛ فقد زُرعت الورود في الجزر الوسطى بين الحارات المرورية، وزُودت الشوارع بمصابيح إضاءة جديدة وقطاعات من جدران جرى بناؤها حديثاً وكتب عليها تنويه يقول “مخصصة للأعمال الفنية”.
زُرت أُسراً في المدينة، وكان الكثير منهم يخشون من البوح بما لديهم، فالجميع يتعرضون لضغوط شديدة. والدبابات وسيارات الشرطة المدرعة مرابطة في أماكنها ويمكن أن تصل في لحظة واحدة. الجميع يغلون من داخلهم، لكنهم صامتون.
كان الحصار وحظر التجول الذي صاحبه مختلفاً بعض الشيء هنا عن المحافظات الأخرى. وقد بدأت الشائعات التي تحدثت عن النية لفرض حظر للتجول قبل أشهر من الإعلان عنه رسمياً. هذا التكتيك استُخدم أيضاً في جيزري (جزيرة ابن عمر) وسيلوبي لغرس بذور الخوف هناك.
وحتى قبل بدء الحصار وحظر التجول، ترك معظم الناس منازلهم وخرجوا من المدينة. ومن تمسكوا بالبقاء، رحلوا بعدما بدأ حظر التجول في الرابع عشر من مارس عام 2016. وقال كل شخص التقيته تقريباً إنه لو نجح الناس في أن يتحدوا، لما غادروا المدينة، ولما مات أبناؤهم وبناتهم، ولما هُدِّمت المدينة. أهالي شرناق غاضبون، لكن فوق كل شيء هم غاضبون من أنفسهم.
قالت إحدى الأمهات “على الأقل كان بإمكاني البقاء في الحي الذي عشت فيه والموت مع ولَدي”.
والعدد الإجمالي لمن لقوا حتفهم ما زال غير معروف، لكن هناك أكثر من مئة. وغالبية هؤلاء كانوا من ميليشيا الشباب الكردي، وحدات حماية المدنيين. ولم يحظ الكثير من الضحايا بعد بمراسم دفن ملائمة، وقالت أمهات إن جنازات الضحايا مُنعت.
وهناك حالات لبعض الأسر التي قالت إنها حصلت على جثة لدفنها، لكنها اكتشفت بعد ذلك أن الجثة لا تخص ابنهم. وغالبية هؤلاء لم يتمكنوا من السعي لأي حلول قانونية لهذه القضية، حيث أنه لا توجد منظمات تدعمهم؛ فهنا، يسود الشعور بالعزلة.
ولا يستطيع حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد دعم هؤلاء الناس، لأن الحزب نفسه في حالة فوضى بعد إلقاء القبض على الكثير من قياداته الحزبية. فضلاً عن ذلك، فإن الصحافة محظور عليها تناول الأحداث الدائرة في شرناق؛ وحتى إذا كانت الصحافة تستطيع، فإن الكلمات تعجز عن وصف ما يحدث. والكثيرون مشغولون، يتساءلون، ما الذي كان بإمكانهم أن يفعلوه لحماية شرناق من الدمار.
بينما كنت أسير مع إحدى المقيمات إلى جوار اللافتات الكبيرة، أشارت لي إلى مبنى توكي.
قالت لي “انظري إلى كل هذه البنايات يا نورجان؛ كلها تبدو متشابهة. لقد كتبوا في كل مكان عبارة ’نحن نعيد مدينة نوح إلى الحياة من جديد‘. لكن الحيوانات في سفينة نوح لم تكن جميعها تبدو متشابهة؛ كانت السفينة تحمل من كل زوجين. إنهم لم يفطنوا إلى تلك الحقيقة حتى”.