في قلب ديار بكر، أكبر مدينة في جنوب شرق تركيا الذي تقطنه أغلبية كردية، تقع منطقة سور القديمة. تمثل القلعة التي تحيط بالمنطقة، والحدائق الواقعة خلف الجدران، موقعاً للتراث العالمي على قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، في حين تم تصنيف ما يربو على 1500 مبنى في سور على أنها من المباني تاريخية التي تخضع للحماية بموجب القانون. لكن في أواخر عام 2015، دخل الجيش التركي بالدبابات والقوات للقضاء على المقاتلين الأكراد، ثم اتبع ذلك بخطة بناء واسعة.
وعندما قمت بدخول سور في يوم خريفي لطيف، سرعان ما أحاطت بي أنا وصديق سحابة غبار غطت المنطقة الوسطى القديمة في ديار بكر لمدة ثلاث سنوات. السبب وراء هذه السحابة الترابية هو ما يسمى “التحول الحضري”.
يتم تركيب مظلات خشبية على واجهات المحلات والمباني والمنشآت التجارية وتطلى باللون الأبيض وفق التنظيم العسكري. في بعض المناطق، يتم هدم المنازل والمحلات التجارية القديمة وتشييد أبنية موحشة في مكانها. بدأت عملية التجديد في شارع غازي، الطريق الرئيسي، وامتدت الآن إلى الشوارع الجانبية. حتى المبنى التاريخي الذي كان يحمل لون الخردل عند فندق دمير، المفضل لدي في جميع أنحاء المدينة، بات الآن باللون الأبيض. عندما أرى هذا، أشعر بخيبة الأمل.
لتجنب البناء، لجأت إلى الشوارع الجانبية الضيقة في صور. ومع ذلك، فإن هذه الشوارع مغطاة بالقذارة أكثر من أي وقت مضى، وبالكاد يمكن المرور بها بسبب الرائحة الكريهة. من الواضح أن حكومة البلدية لم تجمع القمامة منذ فترة.
يقترح صديقي أن القذارة مقصودة وأنها كلها تأتي في إطار استراتيجية حكومية لإجبار السكان المحليين على الخروج. من المعروف على نطاق واسع أن تعيين الأوصياء ليحلوا محل المسؤولين المحليين كان أسلوب الحكومة في تقويض المعارضة المحلية لبعض الوقت.
اقتربت من الحاجز، الموجود باستمرار في المناطق التي ما زالت تخضع لحظر التجول، ونظرت إلى الأنقاض، التي لا يمكن تمييزها الآن عن البناء الجاري.
ومن المتوقع أن يتم بيع بعض المنازل الجديدة بحلول نهاية العام. أخبرني أصحاب المتاجر أن الأشخاص الذين هُدمت منازلهم في سور سيتمكنون من شراء منازل جديدة مقابل 2000 ليرة تركية لكل متر مربع. سيكون متوسط السعر لغير السكان المحليين 3000 ليرة لكل متر مربع. وتبدو هذه سياسة معقولة، إلى أن يرى المرء أن سكان سور من ذوي الدخل المنخفض الذين فقدوا منازلهم لن يكونوا قادرين أبداً على تحمل تكاليف المنازل الجديدة، حتى بالسعر المخفض.
على طرق سور، تم انتزاع حجارة البازلت المصنوعة يدوياً منذ قرون واستبدلت بأحجار رصف رمادية تذكرنا بالعثمانيين. لا يقتصر التحول على الهياكل المادية. من الواضح أن الحكومة تريد بناء ثقافة جديدة هنا أيضاً.
يبدو مسجد الشيخ مطر حزيناً بشكل خاص، إذ أنه محاط بالفراغ الذي خلفه الهدم والرصيف الرمادي الباهت. أسمع صوت طاهر ألجي في رأسي يردد “لقد رأيت الكثير من الحروب والكوارث، ولكنني لم أشهد خيانة بهذا الحجم”.
وقد قُتل ألجي، وهو محام وناشط، قبل ثلاث سنوات عندما زار سور للتحذير من الدمار الذي لحق بالمواقع التاريخية. أسمع صوته كما لو كان بالأمس فقط، كما لو كان بجانبي.
في المساء، أجد نفسي في حي إسكندر باشا وألاحظ زيادة حضور حزب الدعوة الحرة، الذي تربطه صلات بحزب الله الكردستاني، وهو جماعة إسلامية سنية متشددة. وتقدم العديد من دورات تعليم القرآن، وتلعب الفتيات اللواتي يرتدين الحجاب في الشوارع القذرة.
أتحدث مع امرأة شابة معاقة تعيش مع أمها، وأعرف أنهن تعشن فقط بفضل المساعدات. قالت لي مجموعة من الأطفال إنهم لا يذهبون إلى المدرسة بعد الآن. توقفوا عن الذهاب بسبب العمليات العسكرية ولم يعودوا.
تم تحويل عيادة الحي إلى مركز للشرطة، مما يجعل الحياة أكثر صعوبة بالنسبة للسكان المحليين، لا سيما المعاقين والمرضى وكبار السن.
يقول لي أحد التجار المحليين “ذهبنا إلى حكومة البلدية عدة مرات لكنهم لم يفعلوا شيئاً.. إنهم لا يجمعون القمامة، لذا فقد وصلت إلى درجة أن الناس لا يستطيعون المشي في الخارج. اعتادوا أن يكونوا حكومتنا، وسوف يستمعون إلينا. الآن، لا يتعاون معنا أحد”.
في الشهر الماضي، أغلق أصحاب محلات شارع مليك أحمد الشارع للتعبير عن الاحتجاج. بيد أن الاحتجاج لم يكن على القذارة والبناء، وإنما على فرض قيود على وقوف السيارات في شارعهم.
أسأل عن موجة الاعتقالات الأخيرة التي استهدفت أعضاء من الحزب الشعوب الديمقراطي، وهو أول حزب يمثل المصالح الكردية في البرلمان التركي. لا يريد أحد أن يتحدث عن ذلك. أشعر بغضب شديد ضد الدولة، وخيبة أمل كبيرة في الحركة الكردية. يبدو أن نتائج الانتخابات الأخيرة ومصير المسؤولين المنتخبين قد زاد من هذا الشعور بخيبة الأمل.
ويعرب العديد من سكان ديار بكر عن عدم ارتياحهم الشديد لبيان الرئيس رجب طيب أردوغان بشأن الانتخابات المحلية المقبلة. فقد قال في شهر أكتوبر “في هذه الانتخابات.. في حال فاز الأشخاص الذين تورطوا في الإرهاب في صناديق الاقتراع، فسوف نتخذ إجراءات فورية لتعيين الأوصياء والاستمرار في طريقنا”.
يعتقد البعض أن حزب الشعوب الديمقراطي يجب أن يقاطع هذه الانتخابات، بينما يقول آخرون إن الحملات الانتخابية أصعب من ذي قبل. يتساءل بعض الناس عن سبب بقاء حزب الشعوب الديمقراطي في البرلمان، وهي هيئة فقدت كل المزايا بعد الانتقال إلى مرحلة الرئاسة التنفيذية.
في يوم الثاني من ديسمبر عام 2018، سيكمل حظر التجول في سور ثلاث سنوات. طوال ثلاث سنوات كاملة، استمر الدمار و”التحول” في هذه المنطقة المحظورة.
قال رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو “سنحول سور إلى طليطلة”، في إشارة إلى المدينة التي شيدت في العصور الوسطى والمدرجة على قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في إسبانيا. وسرعان ما أُجبر على التنحي، ولم تتحول سور إلى طليطلة. بدلاً من ذلك، تتحول بسرعة إلى أرض خراب حضرية على أيدي وصي حكومي.
أعود إلى المنزل وأتصفح الإنترنت لمطالعة صفحة “أخبار الوصي” الحكومية، والتي تروج للمشروعات التي يديرها الوصي. يحتوي منشور واحد على صورة لأحد الأوصياء يتجول في سور وتحمل الصورة هذا التعليق: “إنهم يزعمون أن السكان المحليين يرفضون قبول الأوصياء. على من يعتقدون أنهم يضحكون؟”
في هذا اللحظة، أتلقى رسالة نصية من الوصي المعين على ديار بكر، يحتفل بمرور عامين على تعيينه في منصبه. إلى جانب سور المشاريع البلدية، تعلن الرسالة: “أولويتنا هي ديار بكر”.
بصراحة، على من يعتقدون أنهم يضحكون!