تشهد أعداد السجناء والمحتجزين في السجون التركية زيادة كبيرة خلال الفترة الحالية من حكم حزب العدالة والتنمية؛ حيث جاء في التقرير الذي أعدته جمعية حقوق الإنسان، استناداً إلى أقوال المساجين في السجن المركزي، بشأن ما يتعرض له المحتجزون في السجون التركية من انتهاكات، أنه اعتباراً من 15 نوفمبر 2017، أُلقي في السجن 228993 سجيناً؛ متوزعين على عدد 384 سجناً في عموم تركيا.
ويلجأ ما يربو عن 20000 سجين في هذه السجون إلى الاستلقاء على الأرض؛ لأنهم لا يجدون لهم مكاناً في هذه السجون، التي لا تتعدى السعة القصوى لها 207.279 فرداً فقط. أضف إلى هذا أن عدد المحبوسين قد ارتفع خلال هذه الفترة إلى 59.429، بعد مجيء حزب العدالة والتنمية إلى الحكم.
كما ازدادت الظروف المعيشية في هذه السجون سوءاً، خاصة بعد إعلان حالة الطوارئ في البلاد؛ حيث تتوارد الأنباء، بين الحين والآخر، بشأن ما يتعرض له المحتجزون من تعذيب، ومن معاملة سيئة. كما تحولت الانتهاكات الصحية، ومنع المساجين من الاتصال بذويهم، وما يتعرضون له من عقوبات تأديبية تعسفية، والتجريد من الملابس، والعزل، إلى ممارسات عادية؛ ترتكب كل يوم هناك.
ووفقاً لتقريرٍ عن انتهاكات حقوق الإنسان، صدر في عام 2017، عن فرع جمعية حقوق الإنسان في ديار بكر، فإن 433 سجيناً تعرضوا للتعذيب ولسوء المعاملة، خلال عام واحد داخل سجون هذه المنطقة فقط.
ووفقاً للتقرير نفسه، فإن أحد عشر سجيناً تعرضوا للقتل داخل السجن خلال هذه الفترة؛ زعمت الحكومة التركية أن ثلاثة منهم ماتوا محترقين، وأن ثمانية منهم قد انتحروا، في حين توفي ستة مساجين متأثرين بأمراض مختلفة. إضافة إلى اثنين آخرين قضوا نحبهم على يد المساجين الآخرين.
أما المحتجزون المرضى داخل السجون، فهم مشكلة قائمة بذاتها؛ فقد توفي خلال العامين الأخيرين في السجون 2300 سجيناً، وفق البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة العدل التركية. وعلى الرغم من كافة المحاولات، التي بُذِلت للإفراج عن هؤلاء، إلا أن السلطات التركية لم تسمح، حتى للمتأخرين صحياً، بتأجيل تنفيذ الأحكام الصادرة ضدهم.
وعلى الرغم من أن مصلحة الطب الشرعي هي الجهة الوحيدة المنوط بها اتخاذ قرار إخلاء سبيل هؤلاء المساجين بسبب تدهور حالتهم الصحية، إلا أنه بات درباً من دروب المستحيل أن يحصل السجين على تقرير “يتعذر بقاؤه داخل السجن”، على الرغم من أن مجرد الحصول على هذا التقرير لم يعد كافياً أيضاً.
وحتى لو صدر هذا التقرير من مصلحة الطب الشرعي بعد محاولات مُضنية، فإن وكلاء النيابة يستطلعون الأمر من شعبة مكافحة الإرهاب، في المناطق التي يقطن بها هؤلاء المساجين؛ بسؤالهم المعتاد “هل يشكل هذا الفرد خطراً على أمن المجتمع إذا تم الإفراج عنه؟”
وغالباً ما يأتي الرد على الشكل التالي: “المذكور يشكل خطراً على أمن المجتمع”، حتى إن كان هذا الشخص مستلقياً على نقَّالة، أو مستخدماً أنبوب التنفس الاصطناعي. وهذا يعني أنك، لا محالة، ستلفظ أنفاسك الأخيرة في السجن؛ فلن تمنحك الدولة فرصة الموت بين أحبائك.
يقبع في السجون التركية، وفق بيانات جمعية حقوق الإنسان، 1154 سجيناً. يعاني هؤلاء من أمراض مختلفة؛ إذ تستدعي الحالة الصحية ﻠ 357 منهم إطلاق سراحهم على الفور؛ لأنهم يعيشون في آخر أيامهم. ومع هذا، لم يرق “قلب الدولة” لحالهم. إن هذا الأب قاسٍ بطبعه، لكن قسوته تزداد حدتها على “أطفاله الأكراد”، أو على “أولئك الذين يقفون إلى جانب الشعب الكردي”، أو على من ينادون بالديمقراطية ، وبالسلام ، وبالعدالة.
أخبرتني “نعمت تانري كولو”، أثناء لقائي معها الأسبوع الماضي، أنهم لم يسمحوا للمتحدث باسم جمعية أنصار 78 بالخضوع للعلاج داخل محبسه (جمعية تأسست للعمل مع جميع المنظمات العمالية، في جميع أنحاء البلاد؛ من أجل الحصول على المعنى الحقيقي للمطالب الدستورية المدنية في المجتمع. وهدفها تحقيق العدل والسلام والديمقراطية في تركيا).
نعلم أن جلال الدين جان محتجز لديهم منذ ثلاثة أشهر، وأن ملفه ينطوي على غموض كبير. بالإضافة إلى أنه لم يخضع للمحاكمة حتى الآن. إن هذا الشخص، وكثيرين مثله، يعانون من مشكلات صحية جسيمة؛ فقد أكَّدت لي السيدة نعمت على هذا الأمر بقولها “بذلنا ما في وسعنا من أجل العديد من المرضى داخل السجون. وها نحن اليوم نعاني الشيء نفسه؛ فالحالة الصحية لجلال الدين جان ليست على ما يُرام”.
ومع هذا، لم يصدر، حتى الأسبوع الماضي، قرار بالقبض على 21 مشتبهاً، صادر ضدهم حكم بالسجن المؤبد، منهم إسماعيل حقي كاراداي، وجيفيك بير، وجتين دوغان، في دعوى 28 فبراير؛ مراعاةً لسنهم، أو لظروفهم الصحية.
الغريب أن المحكمة اتخذت هذا القرار، دون أن تنتظر تقرير مصلحة الطب الشرعي، في الوقت الذي يعاني فيه عشرات الأشخاص من تعذر بقائهم في السجن، بسبب “السن، والحالة الصحية”.
إن سيسا بينغول واحدة من هذه الحالات، التي تعنتت معها الدولة بشكل كبير، ورفضت إطلاق سراحها، على الرغم من الحملات، التي استمرت طيلة عام كامل؛ للمطالبة بذلك.
وقد عرضت وكالة أنباء الأناضول في مطلع شهر أبريل من عام 2016 خبراً بالبنط العريض، تحت عنوان “القبض على إرهابي اسمه الحركي (سيسي)”. وقد اتضح أن الإرهابي، الذي أُطلق عليه اسم “سيسي”، والذي تم القبض عليه؛ بدعوى عضويته في منظمة إرهابية، كانت السيدة “سيسا بينغول”، التي تبلغ من العمر ثمانية وسبعين عاماً، والتي لم تغادر قريتها “تكنيدوزو” التابعة لمدينة “فارتو” حتى هذا الإعلان.
لقد أمضت هذه السيدة العجوز حياتها بين الفقر، الألم؛ حيث فقدت اثنين من أطفالها في زلزال “فارتو”، وفقدت الثالث بسبب حالة الفقر المدقع التي تعيشها، ثم ما لبثت أن فقدت ولديها الباقيين، بعدما التحقا بحزب العمال الكردستاني المحظور من قبل الدولة.
لقد دفنت هذه السيدة أولادها إلى جوار بعضهم البعض بيديها، وتعرضت هذه المسكينة، قبل أن يقتادوها إلى السجن بشهر، لأزمة قلبية، كادت أن تودي بحياتها هي الأخرى.
وعلى الرغم من حالتها الصحية السيئة، فقد اقتادتها قوات الشرطة في عربة مدرعة إلى سجنها في “موش”، ومنه نفتها إلى سجن “تارسوس” مقيدة بالأغلال. وهناك مُنِعَ عنها الطعام والشراب تماماً، كما يُفعل مع عتاة المجرمين. وقاموا بإبعاد ابنها، الذي كان يقضي عقوبته في نفس السجن، إلى سجن آخر في “كراربوك”.
أكد لنا السيد “غولشن أوزبَك”، محامي السيدة سيسا، خلال لقائنا معه، أن السيدة سيسا تعاني الآن من أمراض في المثانة، وأنها صارت غير قادرة على التحكم في التبول. من أجل هذا، تقتضي ظروفها الصحية التوجه إلى الحمام مرات كثيرة خلال اليوم.
حكى لنا كذلك كيف أنها تتعرض لحرجٍ شديد في كل مرة تُنْقَلُ فيها إلى المستشفى، حيث لا يمكنها التحكم في التبول؛ بسبب تركهم إياها فترات طويلة داخل العربة المدرعة. الأمر الذي جعلها تقول في المرة الأخيرة، بعدما عادوا بها من المستشفى إلى المكان المخصص للنوم داخل محبسها ” الموت أهون عليَّ من الذهاب إلى المستشفى مرة أخرى”، وأضافت أن جسدها لم يعد يستجيب للعلاج.
كان من الصعب على سيدةٍ، في سن الأم سيسا، أن تذهب إلى المستشفى في سيارة مدرعة، ثم تُتْرَكُ بداخلها، غير قادرة على قضاء أبسط احتياجاتها. من أجل هذا كان ذهابها إلى المستشفى بمثابة عذاب حقيقي.
علمتُ من محامي السيدة سيسا أيضاً أن المحكمة رفضت طلباً بإخلاء سبيلها، بزعم أنها لم تكن نادمة عما اقترفت من جُرم، وهو ما دعاها إلى التعليق بقولها “ماذا فعلتُ، وأنا في هذه السن؛ كي أشعر بالندم”. وهذا يعني أن هناك في القرن الواحد والعشرين ما يسمى بـ “أحكام تسقط بتوبة صاحبها عن الجُرم الذي اقترفه”.
يعني هذا أيضاً مدى الحقد الدفين من قِبَلْ الأب تجاه “أطفاله الأكراد”! وكيف أن الدولة لا تدخر وسعاً في البحث عن طرقٍ؛ تعاقب بها “أبناءها الأكراد” و”كل من يدافع عن حقوقهم”.
الإثم الذي لا يُغتفر، والذي ارتكبه هؤلاء في نظر الدولة التركية؛ أنهم وُلدوا “أكراداً” أو أنهم “وقفوا إلى جوار إخوانهم الأكراد”؛ لذا لم يأخذها بهم رأفة، حتى إن كانوا يقبعون داخل السجون، أو يستلقون على فراش الموت؛ لأن الدولة التركية لا ترى لهؤلاء قيمة، على عكس المتهمين في قضية 28 فبراير!
يمكن قراءة المقال باللغة التركية أيضا: