*As published in Ahvalnews on 02.12.2017
https://ahvalnews.com/tr/nurcanbaysal
لا زال أطول أنواع حظر التجوال في العالم مفروضًا ومستمرًا في بلدي.
في 2 ديسمبر 2015 بدأ حظر التجوال رقم 6 يطبق في 6 أحياء من منطقة سور التابعة لديار بكر جنوب شرق تركيا، وقد أكمل عامه الثاني منذ أيام.
تشغل تلك الأحياء الستة مساحة 75 هكتارًا من منطقة سور المقامة على 148 هكتارًا، أي إنها تعادل نصف المدينة.
وكانت فترات حظر التجوال -الذي بدأ في أغسطس 2015- تستمر لبضعة أيام في أول الأمر، ثم أصبحت تستمر ما بين أسبوع- 10 أيام أحيانَا. وقد تأبَّد هذا الحظر بعد مقتل رئيس نقابة محاميِّ ديار بكر السيد طاهر ألتشي؛ ففي 2 ديسمبر 2015 فرض حظر التجوال للمرة السادسة. وبعد 9 أيام، أي في 11 ديسمبر 2015 منحت السكان مهلة لمدة 17 ساعة ليخرجوا من منطقة سور. ولا يزال الحظر مستمرًا اليوم كما كان بالأمس.
مع استمرار الحظر بدأت عمليات القصف الجوي. فظلت منطقة سور تعاني تحته مدة 100 يوم بدءًا من 2 ديسمبر 2015-10 مارس 2016. وبينما يموت الناس هناك ويتم تقويض التاريخ العتيق البالغ 1000 عام وتدميره استمرت الحياة خارج منطقة سور أيضًا شبه ميتة تتقاذفها أصوات القصف والقنابل. قُتل العشرات من الناس، وأصيب وجرح العشرات أيضًا.
وحتى اليوم فإن الأرقام ليست معروفة. انتهت العمليات بعد 100 يوم. وبينما كانت آثار الدمار الذي وقع في منطقة سور بعد انتهاء تلك العمليات في وضع يمكن علاجه وإصلاحه فضّلت الحكومة دكَّ هذه المنطقة ونسفها بأحيائها ومنازلها وشوارعها. وعلى الفور بدأت عمليات الهدم في مارس 2016. وبين أصوات الهدم التي دامت شهورًا ترددت الشاحنات على منطقة سور دخولًا وخروجًا.
ألقيَ “حُطام” منطقة سور في نهر دجلة. وكان بين ثناياه منازل وحيوات وعظام أحيانًا. وظل بعض الجثث ملقىً على الأرض شهورًا، بينما لا يزال العثور على البعض متعذرًا.
أصبحت هذه الأحياء الستة مسطحة؛ فقد سوّيت بالأرض تمامًا تقريبًا. وعلى هذه المساحة المسطحة الفارغة المتبقية من هذه الأحياء المدمرة تنشئ السلطة أبنيةً لا هوية ولا شخصية ولا طابع واضحًا لها، غريبة هندسيًا، مغطاة حوافها بالبازلت ومدهونة باللون الأبيض. لقد استمر الحظر في تلك الأحياء الستة كلها.
الحقيقة أن هذا لم يعد مجرد حظر تجوالٍ، بل حالة تعتيم على ما يجري في منطقة محظورة وإخفاء لما يحدث هناك عن سكان تلك المدينة.
وكلما ترددت الشاحنات على المنطقة خرجنا نحن أيضًا إلى المرتفعات نحمل المناظير ؛ فإذ بنا نشاهد عملية تدمير بلدنا التي يبلغ عمرها 7000 عامٍ.
دُمرت الأحياء الستة بزعم “الأمن”، وباسم “التحول الحضري” من ستة أحياء إلى حي واحد.
أصدرت الحكومة قرارًا في 21 مارس 2016 أعلنت بمقتضاه تأميم 82% من منطقة سور. أم النسبة المتبقية البالغة 18% من هذه المدينة فكانت بالفعل ملكًا عامًّا. تم الاعتراض لدى مجلس الدولة على عمليات التأميم، ولكن النتيجة لم تتغير. وإنما سُلبت منطقة سور من أهلها، من الآمديين، وتم تحويلها إلى مال عامٍ.
وفي 2016 اتخذت الحكومة قرارًا آخر غيرت بمقتضاه أيضًا خطة حماية منطقة سور التي تم تسجيلها لدى منظمة اليونسكو عام 2015 على أنها “تراث ثقافي عالمي”. فأضيف إلى الخطة الجديدة إنشاء مخافر ومراكز شرطية، وتمت توسعة شوارع منطقة سور الضيقة الشهيرة ليصل عرض الواحد منها إلى 15 مترًا بحيث ترى المخافر والمراكز الشرطية الجديدة بعضها البعض.
وبينما تنفذ هذه الأعمال من جانب، تم من جانب آخر تغيير جميع محال العمل التي على طريق غازي الرئيسي في منطقة سور بحيث أصبحت موحدة الشكل وكأنها نظام عسكري. وغُطيت قمم المحلات بالأخشاب، وجدرانها بقطع رقيقة من البازلت.
وبعد المنظر الموحد الذي فرض في الشارع الرئيسي جاء الدور على “السوق المحروق”. ففقد هذا السوق الرائع البهي كل ألوانه خلال مدة قصيرة وفقًا لتعديل مصطنع؛ وتم تحويله إلى مكان بلا روح.
وكأن هذا القدر من التدمير والتخريب لم يكن كافيًا؛ فاستولت الحكومة في ربيع 2017 على أحياء “علي باشا ولاله بك” المشهورة والزاخرة جدرانها بالنقوش والأناشيد، وذلك بزعم “التحول الحضري”. فأجبرت الأسر على الخروج من “علي باشا”، وبدأت عملية الهدم والتدمير.
وتصديًا لهذا نظم سكان المدينة أنفسهم وأنشأوا “منتدى لا لهدم منطقة سور “. وخلال شهر رمضان أقيمت موائد الإفطار على الأرض بهدف التضامن مع سكان “علي باشا” و”لاله بك”، فأفطروا وتناولوا طعام الإفطار سويًّا، وتحدثوا في شؤون الحي. ولكن، لا فائدة! إذ لم تتوقف علميات الهدم، بل تباطأت أحيانًا.
وخلال فصل الصيف تم تهجير الناس من منازلهم قسرًا إلى غير وجهة محددة. وقطعت عنهم خدمات المياه والكهرباء. وأوذوا، واليوم لا نجد ما بين 90-95 % من حي “علي بك”. والقسم الصغير المتبقي منه ربما يتم هدمه الشهر الجاري. ليأتي الدور بعد ذلك في خطة الهدم والتدمير على حي “لاله بك”.
خلال عامين تم تدمير الأحياء الستة التي تعاني من حظر التجوال حتى الآن داخل منطقة سور في ديار بكر المكونة من 15 محلة؛ حدث ذلك بحجة “الأمن”، أما محلة “علي باشا” فقد تم تدميرها بحجة “التحول الحضري”.
هناك 7 من أحياء منطقة سور مفقودة الآن ولم تعد موجودة. والتاريخ البالغ 7000 سنة تم تقويضه وتدميره في القرن 21 على مرأًى ومسمع من العالم. وتنصلت من القيام بواجباتها ومهامها الأساسية العديد من المنظمات مثل منظمة اليونسكو -التي تمثل تركيا أحد أعضائها- المسؤولة عن حماية الميراث الثقافي والدفاع عن حق الإيواء والأمم المتحدة.
ستدمر وتهدم المنازل المتبقية في “علي باشا” خلال بضعة أيام، وهناك حوالي 20-25 أسرة في الحي لا زالت تقاوم حتى لا تغادر منازلها ولا تخرج منها..
أدخلُ حي “علي باشا” المدمر. الطقس بارد كالثلج. أقابل أولًا السيدات الثلاث اللائي يقاومن مغادرة منازلهن، كانت إحداهن حامل، وكانت تجادل وتتناقش مع رفيقاتها قائلةً: “أنت أيضًا كردية، كيف تهدمين منزلي؟” ربما يكون المنزل قد هدم بحلول المساء. فسألتها: “إلى أين ستذهبين؟ هل استطعت تدبير مكان لك؟” تقول: “لا”. وفي تلك الأثناء جاء رجل منزله دُمِّر في الأسابيع الماضية؛ ولكن إحدى غرفاته لا تزال قائمة؛ فقال: “لم أستطع التأقلم على المكان الذي ذهبت إليه، لا زالت آتي إلى منزلي فأمكث ليلًا في تلك الغرفة.”
امرأة أخرى تتوسل إلى الفريق القادم من أجل تنفيذ قرار الهدم: “زوجي طريح الفراش يحتضر، وليس لنا مكان نأوي إليه، من فضلكم أمهلونا نقيم هنا حتى يموت ثم نذهب.” انتهى الكلام. غير أن فريق الهدم مصمم على أن يفعل؛ فيمهلونها: “حتى يوم الجمعة، يوم الجمعة 1 من ديسمبر آخر المهلة.”
هناك مجموعة من المنازل لا تزال قائمة. تستدعيني مجموعة من النساء فأذهب إلى جوارهن. فلما رأتني سيدة عجوز احتضنتني وشرعت تبكي وقالت: “إلى أين أذهب؟” وهناك امرأة أخرى علمت أنها أم لأربعة أطفال أخذت التراب من الأرض وسألتني: “أنظري، إنني لا أعرف شيئًا سوى هذا التراب والأرض. فهل يقبل الله تعالى فعل هذا في قلب الشتاء؟!” “إن الثعبان نفسه يا بُنيتي لا يخرج من جحره شتاءً؛ فإلى أين نذهب؟! أنا خرجت حافية من قرية “ليجة” عام 1993 وجئت إلى هنا، جئت حافية. والآن يقولون أخرجي من هنا أيضًا!”
بعض هذه العائلات لن يكون لها منزل بحلول هذه الليلة. ماذا سيفعلون هذه الليلة؟ تشغل هذه الأسئلة ذهني. لا أشعر أنني على ما يرام. فأجلس فوق حجر في ساحة مليئة بالأنقاض.
صارت منطقة سور أكثر مكان طبقت فيه سياسات حزب العدالة والتنمية الظالمة. لا شك أن لعمليات الهدم و”الإنشاء” غير الواضحة هذه هدفًا معينًا. إنه تدمير التاريخ والثقافة الماثلة هنا وإنشاء تاريخ جديد. ولا ريب أن هذا التاريخ الجديد خالٍ من الأكراد. الأكراد غير موجودين فيه بهذا الشكل على الأقل. إنهم لا يرسمون للأكراد في هذا التاريخ الجديد الذين يحاولون كتابته أي دور سوى أن يكونوا “عنصرًا ثقافيًا” صغيرًا.
تجري عملية إنشاء منطقة سور الجديدة بفهم عسكري تمامًا. وتُحوَّل المدارس والوحدات الصحية إلى مخافر ومراكز شرطية ولا يكفي. يتم إنشاء كل مخفر بحيث يرى الآخر. وتهدم الأزقة الضيقة التاريخية حتى تمر منها بكل سهولة الدبابات والمدرعات، وتقام بدلًا منها شوارع واسعة بعرض 15 مترًا. إنها عملية إنشاء منطقة سور جديدة يمكن السيطرة على سكانها أي على الأكراد، بل إنها عملية إنشاء مدن كردية جديدة.
تعمل هيئة الإسكان والتجمعات العمرانية التركية كأداة هامة في عملية “السيطرة على السكان”. ويوضع عدد من أفراد الأمن في كل كتلة في هذه المناطق السكنية الجديدة الخاضعة للرقابة والسيطرة.
فهل تستمر وتبقى هذه السياسة، إنني لا أظن ذلك. غير أن ثمة حقيقة ماثلة هي أن قلبي وفؤادي يتوجع ويتفجع. حقيقة أن مدننا العتيقة دمرت وسويت بالأرض خلال عامين اثنين…
فوق حجر جلست في ساحة مدمرة في “علي باشا” أحاول أن أتذكر الوضع قبل عامين، اليوم الذي بدأ فيه حظر التجوال والهدم والقصف ، يوم 2 ديسمبر 2015. ولكن لا فائدة…
وكأن ما مضى ليس عامين، بل 1000 عام…
يمكن قراءة المقال باللغة التركية:
Nurcan Baysal