كانت أشهر الشتاء في أواخر عام 2015 وأوائل عام 2016 فترة عصيبة في جنوب شرق تركيا، حيث تعرضت الكثير من مدننا للقصف ورزحت العديد من المناطق الكردية تحت حظر تجول عسكري. كان الأطفال يموتون جراء الإصابة بشظايا القذائف والطلقات النارية، وأغلقت معظم المدارس فى الجنوب الشرقي ذي الأغلبية الكردية فيما فر العديد من المعلمين هربا من العنف.
في هذه الفترة، فُرض على المواطنين الأكراد أن يعيشوا في عزلة تامة عن بقية البلاد، وكان حتى من الصعب علينا أن نجعل أصواتنا مسموعة تحت دوي القصف.
كانت هناك بعض الاحتجاجات الخافتة في غرب تركيا لكن معظم الناس الذين يعيشون في المناطق الغربية الأكثر ثراء في البلاد يبدون غير مبالين بما يحدث في الشرق.
كنت أحاول زيادة توعية الناس من خلال الكتابة عن الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان. في الوقت نفسه، كنت أساعد الأسر التي لم تتمكن من دفن جثث أطفالها بعدما تُركت في الشوارع وكانوا يحاولون كسر حظر التجول العسكري في منطقة سور التاريخية في ديار بكر، أكبر مدن الجنوب الشرقي، من أجل تشييعهم إلى مثواهم الأخير.
أتذكر ما حدث في 8 يناير 2016. كان واحدا من تلك الأيام الحالكة السواد. فبعد أن شاركت في احتجاج من أجل منطقة سور، عدت إلى المنزل في المساء وكان أبنائي يشاهدون التلفزيون. وعلى الشاشة كان يُعرض برنامج “بياز شو” وهو برنامج ترفيهي شهير يستضيف عادة نجوم السينما والغناء في تركيا ويسمح للمشاهدين بالتحدث مباشرة إليهم عبر الهاتف. وفجأة سمعت صوتا تردد صداه عبر الهاتف من البرنامج إلى جميع منازل تركيا في نفس اللحظة: “ينبغي ألا يموت الأطفال!”
كانت الصوت يعود لامرأة من ديار بكر عرفت نفسها بوصفها مدرسة. وأضافت “هل أنتم على علم بما يحدث في شرق البلاد؟ الأشياء التي تحدث هنا تظهر بشكل مختلف تماما في وسائل الإعلام. لا تبقوا صامتين. تحدثوا عن الأمر مع التحلي ببعض من الشعور الإنساني. انظروا واسمعوا وقدموا لنا يد المساعدة. يا للعار…ينبغي ألا يموت الناس هكذا، ينبغي ألا يموت الأطفال، ينبغي الأ تنتحب الأمهات حزنا على فراق أطفالهن.”
بعد أن انتهت المعلمة من كلامها، قدم مقدم البرنامج بيازيت أوزتورك لها الشكر وقال: “تأكدي أننا نبذل قصارى جهدنا لجعل الناس على علم بما يحدث. لكن الكلمات التي قلتيها تقدم لنا درسا جديدا حول ما ينبغي فعله مرة أخرى. سنحاول أن نفعل المزيد. تحياتي لجميع الناس هناك.”
بعدها، بدأ المئات من الجمهور في الاستوديو ومعهم مقدم البرنامج الذي يشتهر باسم بياز في التصفيق للمعلمة التي تدعى آيشي. وكانت هذه هى المرة الأولى التى يسمع فيها الملايين من المواطنين العاديين فى تركيا أن هناك أطفالا يموتون فى شرق البلاد. وفي تلك الليلة ذهبت إلى السرير مفعمة بالأمل.
لكن هذا الأمل انهار سريعا، ففي اليوم التالي انقلب كل شيء رأسا على عقب، واتهمت الحكومة والحزب الحاكم والقوميون آيشي بنشر دعاية إرهابية ومقدم البرنامج بياز بدعم الإرهابيين.
في هذا المساء، ظهر بياز على شاشة التلفزيون مرة أخرى ليقول إنه لم يدرك “الهدف الخفي” لآيشي، مؤكدا حبه للوطن ودعمه للجيش والشرطة ومذكرا أن والده كان ضابط شرطة، وقدم اعتذاره للشعب التركي والدولة التركية.
وانشغلت وسائل الإعلام التركية بمناقشة نظريات محتملة بشأن آيشي: هل كانت حقا معلمة؟ هل تعمل لصالح حزب العمال الكردستاني الانفصالي المسلح؟ من أين هي؟
وفتح المدعون العامون تحقيقا في اليوم التالي ضد المعلمة التي تدعى آيشي تشيليك وقناة “كانال دي” التلفزيونية التي تعرض البرنامج ومقدم البرنامج بياز.
وبعد ستة أيام من هذه المكالمة، اتهم الرئيس رجب طيب إردوغان تشيليك بنشر دعاية إرهابية وقال إنه ينبغي معاقبتها.
وبعد ذلك ألقت الشرطة القبض على بياز، وتم تغريم “كانال دي” ما يقرب من 300 ألف دولار، فيما أحيلت تشيليك إلى المحاكمة.
هذه التطورات دفعت مجموعة من المفكرين والمثقفين إلى تسليم أنفسهم للمدعين العامين لتقديم إفادة متطابقة قالوا فيها إن “الأطفال لا ينبغي أن يموتوا” ما أدى لبدء تحقيقات بشأنهم كذلك.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، حيث فُصلت تشيليك من عملها، وظهرت صورتها على مختلف وسائل الإعلام الحكومية التي وصمتها بـ”الإرهابية”.
لكن تشيليك صممت على موقفها، وقالت “ينبغي ألا يموت الناس، ينبغي ألا يموت الأطفال، وينبغي ألا تبكي الأمهات حزنا عليهم.”
وفى الشهر الماضى، حُكم على تشيليك بالسجن لمدة 15 شهرا لـ”إشادتها بالارهاب وبمنظمة إرهابية”. كانت المعلمة حاملا في هذا الوقت، وهو ما دفع نشطاء إلى إطلاق حملات تطالب بأن يولد طفلها خارج السجن.
وفي 21 أكتوبر، وضعت تشيليك طفلها. ولن يمضي وقت طويل حتى يتم إرسال الأم ووليدها إلى السجن.
وعقب الحكم عليها بالسجن، قالت تشيليك في مقابلة: “صُدمت عندما سمعت الحكم. سألت نفسي عدة مرات: كيف يمكن أن يكون القول بأن الأطفال ليس عليهم أن يموتموا جريمة؟ لم أكن أعلم أن القول ‘ينبغي ألا يموت الأطفال ‘هو جريمة في هذا البلد. في الواقع، لم يخطر ببالي أبدا أن القول ‘ينبغي ألا يموت الأطفال’ يمكن أن يكون جريمة في أي مكان في العالم.”
ولكن اليوم في تركيا، هذا القول يعد جريمة.
لذلك أسأل الدولة التركية:
هل ينبغي أن يموت الأطفال؟
يمكن قراءة المقال باللغة الانكليزية:
*As published in Ahvalnews on 08.12.2017