التصنيفات
مقالات

تركيا.. حظر التجوّل يقضي على فرص التصويت في الانتخابات

تعرض شاشات التلفاز بين الحين والآخر بعض الأخبار القصيرة. تأتي هذه الأخبار، في كثير من الأحيان، في شكل رسائل قصيرة موجزة؛ تُعرض أسفل الشاشة خلال نشرات الأخبار الرئيسة. شاهدت في السابع من أبريل، خبراً قصيراً، عرضته العديد من القنوات الإخبارية، عن تطبيق حظر التجوّل على 30 منطقة في مركز مدينة هكاري و3 مدن أخرى.

وفي الخامس والعشرين من أبريل، عرضت بعض وكالات الأنباء خبرا “قصيراً” آخر ألا وهو: تطبيق حظر التجوّل على 69 قرية تابعة لمدن ليجا، وكولب في ديار بكر؛ خشية تنفيذ عمليات تخل بالأمن في هذه المناطق.

نشاهد مثل هذه الأخبار القصيرة كل يوم، ولا نلقي لها بالاً. ينتهي الحظر في هكاري، ويبدأ حظر آخر في قرى ليجا. وفي بعض الأحيان، يبدأ في قرى تافان قبل أن يُرفع عن ليجا. والملاحظ أن أخبار فرض حظر التجوّل لا تخلو تقريباً من مناطق بعينها مثل حضرو، وكولب، وشرناق، وبدليس، وهكاري، بينغول، ونصيبين، وباتمان.

وفي بعض الأحيان، يتم الإعلان عن تطبيق حظر التجوّل في مئة قرية دفعة واحدة، مثلما حدث في شهر فبراير الماضي، حينما أعلنت الحكومة عن فرض حظر التجوال في 176 قرية في ديار بكر، ومثلما حدث أيضاً في شهر مارس، عندما أُعلن عن حظر التجوّل في104 قرية. ولا نعرف، على وجه التحديد، عدد القرى والضِيع في المناطق التي تعاني إلى الآن من فرض حالة حظر التجوال. لا نعرف كيف تسير الحياة في هذه الأماكن، لا نعرف إن كانت هناك حياة من الأساس أم لا.

أنتم تعرفون أن هذا هو باب منزلي. لقد قامت فرقة من القوات الخاصة بكسره في اليوم الذي قرروا فيه اعتقالي. أنتظر النجار منذ بضعة أسابيع لإصلاح بعض الأشياء البسيطة في الباب. عجزت عن الوصول إليه عن طريق الهاتف. لقد اختفى النجار فجأةً. كان قد اتصل بي قبل يومين، وقال لي إنه ذهب في زيارة لقرية تتبع مدينة ليجا. وفي أثناء وجوده هناك، أعلنت السلطات التركية حظر التجوّل في هذه القرية، ولم يتمكن من مغادرتها.

أسأل أهل القرية هناك “ماذا تفعلون في ظل هذه الظروف الصعبة؟ كيف تدبرون أمر المأكل والمشرب لعدة أيام؟” فيردون عليّ قائلين “نتدبر أمور أطفالنا بما بقي لدينا من طعام في بيوتنا”. لزم أهالي القرية بيوتهم، ولم يجرؤ أي منهم على الخروج لشراء الخبز لعدة أيام؛ خوفاً من أصوات الرصاص، ومن القصف المستمر هناك، ولم يتمكن الأطفال كذلك من الذهاب إلى المدرسة، وعجز المرضى عن الوصول إلى المستشفيات لتلقي العلاج..

حكى لنا قروي آخر من قرية في وادي كازان عن المعاناة التي يعيشونها بسبب حظر التجوال. كان والده، البالغ من العمر 85 عامًا، يمتلك حوالي 20-30 خلية نحل في القرية التي يعيش فيها. ومع ذلك، لم يكن ليترك والده في تلك القرية خلال السنتين الأخيرتين.

أخذوا والدهم ولجؤوا إلى أحد أقربائهم في المدينة. كان الأب يخاطر بحياته في كل مرة يتوجه فيها إلى القرية؛ من أجل الاعتناء بخلايا النحل التي يملكها. يحكي لنا كيف تعيش القرية في “ظلام دامس”؛ فالكهرباء مقطوعة باستمرار. كانت القرية شبه خالية؛ بسبب حظر التجوّل. لجأ القرويون إلى أقاربهم في المدن المجاورة؛ في محاولة يائسة للبقاء على قيد الحياة.

وبالطبع لم تكن كازان المكان الوحيد الذي توقفت فيه كل معالم الحياة؛ فقد أدى استمرار حظر التجوّل، والعمليات التي تنفذها السلطات في مناطق مثل فاراشين، وجيلو، وبيت الشباب، وكاتو.. إلى إصابة الحياة بالشلل هناك. وقامت الحكومة، بالإضافة إلى هذا، ببناء مخفر للشرطة فوق مرتفعات كاتو، ومنعت بعض السكان هناك من المرور من تلك المنطقة.

لم يسمحوا طيلة السنتين الماضيتين لأحدٍ، غير الجنود والحراس، بالعبور من تلك المناطق في كاتو، في الوقت الذي سمحوا فيه بمرور الحراس فقط في مناطق أخرى. سمعت الكثير من الأحداث، التي تورط فيها هؤلاء الحراس، ولكن مناخ الاضطهاد والخوف عقدا ألسنة الناس؛ ففضلوا الصمت، أو إذا أردت الدقة فقل إن الناس قد عجزوا عن مجرد البوح بما يقاسونه من ظلم.

وعلى الرغم من أن هذه الهضاب هي مصدر الرزق للمواطنين، الذين يسكنون هذه الأماكن منذ مئات السنين، إلا أنهم تعمدوا، خلال السنتين الماضيتين، أن يُضيِّقوا على هؤلاء السكان؛ حتى صاروا لا يسمحون حتى بمرور قطعان الحيوانات من هذه المناطق في كاتو؛ لدرجة أشرفت معها مهن الرعي وتربية الحيوانات على الاختفاء تماماً من تلك المنطقة. تحدث إليَّ أحد سكان شرناق في هذا الأمر قائلاً “كأن الدولة تقول لنا إنني سأضع حداً لتربية الماشية في هذه المناطق، وسأحكم عليكم بالفقر، وسأجعلكم تنسون نمط حياتكم هذا”.

ومن ناحية أخرى، أثّر حظر التجوّل بشدة على الاقتصاد في المنطقة؛ فعلى سبيل المثال، لا يمكن للنساء في هكاري جمع العشب لصنع جبن “السيريك” (جبن السيريك نوع من الجبن يخلط بالجبن في مراحل إعداده نوع من الأعشاب تنمو في السهول، والمرتفعات في هذه المناطق)، كما لا يسمح لهن في أماكن كثيرة بجمع البنجر. أضف إلى هذا ارتفاع نسبة الفقر في هذه المناطق، التي تعتمد في اقتصادها على المنتجات الريفية. كما أخذت بعض المجالات مثل تربية النحل، وتربية الماشية والرعي، التي يقوم عليها الاقتصاد في هذه المناطق، تختفي يوماً بعد يوم.. وبطبيعة الحال، فإن الثقافة المحلية آخذة هي الأخرى في الاختفاء.

ربما يسأل سائل لماذا أكتب عن هذا الأمر. سبب هذا أنني رأيت خبراً قصيراً على شاكلة الأخبار التي حدثتكم عنها؛ تداولته وسائل الإعلام مؤخراً. كان الخبر عبارة عن إعلان صادر عن محافظ هكاري؛ يعلن فيه حظر كافة الأنشطة والفعاليات المزمع القيام بها في عموم المدينة خلال الفترة من 2 حتى 31 مايو.

لقد أثار فرض حظر التجوّل حالة من الجدل على وسائل التواصل الاجتماعي. كان المواطنون يتساءلون عن انعكاس ذلك على سير العملية الانتخابية، وكيف ستتمكن الحكومة من تحقيق المساواة في ظل ظروف كهذه. إنهم على حق. نعم، إنهم على حق كبير. دعك من مسألة توفير المناخ، الذي يحقق التنافس على قدم المساواة، أو حتى ممارسة الحق في التصويت في حد ذاته، فالأمر قد تخطى هذا وذاك، حتى وصل إلى حد تعطيل الحياة تماماً في هذه المناطق.

فلا يزال حظر التجوّل يُطبق في عشرات الأماكن في المناطق القروية، كما أُعلنت العشرات من الأماكن مناطق ارتكازات أمنية. لقد طال حظر التجوّل كل المناطق تقريباً من السهول إلى الهضاب؛ فتأثرت جميع مناحي الحياة في تلك المناطق؛ وعجز الأطفال عن الذهاب إلى المدارس في تلك القرى، في وقت قارب الخبز على النفاد من البيوت، وسط خوف من مجرد الخروج من البيوت؛ لشراء الخبز. والأدهى من ذلك أن المرضى أيضاً مُنِعوا من الذهاب إلى المستشفيات لتلقي العلاج.

تمر الليالي بطيئة وسط الظلام الدامس، وأصوات القنابل وإطلاق النار. أعجز عن مجرد التفكير في الكيفية التي ستُمكِّن هؤلاء المواطنين في تلك المناطق من الخروج؛ من أجل التصويت في الانتخابات المقبلة في ظل هذه الضغوط.

يمكن قراءة المقال باللغة التركية ايضاً: