“قُتل ابني في الخامس من مايو 2017 في اشتباك مع الجيش التركي. علمت بموته من نشرات الأخبار. جرى تبادل صور جثمان ابني الممزق الأوصال على موقع للتواصل الاجتماعي يسمى “كانليكول”.
وفي الصور، وقف جندي من قوات العمليات الخاصة بقدمه على جثة ابني. ذهبت أنا وزوجتي إلى هكاري لمقابلة القائد العسكري لطلب تسلم جثمان ابني بعد 20 يوما من ذلك. قال القائد العسكري إنهم ألقوا بالجثمان في النهر. قلت “أيها القائد، أريد جثمان ابني. إذا لم تكن قادرا على الذهاب إلى المنطقة، فبوسعي أنا الذهاب واستعادة جثته وجثث الآخرين”.
قال لي “الكلاب والقطط تأكل جثث من قتلوا الأسبوع الماضي. قلت له “أيها القائد، حدثت حروب على مر التاريخ. بعد المعارك، حتى أعدى الأعداء يسمحون للآخرين باستلام جثث قتلاهم. ما تفعله الآن يتنافى مع كل القوانين ومع الإنسانية. أتوسل إليك أيها القائد، لا تعذبنا، أعطنا جثة ابننا. دلنا على قبر، شاهد قبر يمكننا زيارته والبكاء عنده.”
قد تقدمت أكثر من 50 أسرة بطلبات إلى رابطة حقوق الإنسان. جميعا لديها أحباء لم يواري الثرى جثامينهم حتى الآن. قال راجي بيليجي مدير رابطة حقوق الإنسان في ديار بكر “الأرقام أكبر بكثير، لكن للأسف كثير من الأسر تخشى التقدم بطلبات إلينا ومن المستحيل بالنسبة لنا أن نذهب إلى تلك المناطق الريفية للبحث عن الجثث.”
بعد لقائنا، كتبت رسالة إلى الرئيس رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء بن علي يلدريم. تضمنت الرسالة كل التفاصيل الخاصة بالأسرة، وصور الجثمان الممزق وأسماء صفحات التواصل الاجتماعي التي نشرت مثل تلك الصور (تم حجب تلك الحسابات بعدما أرسلت الرسالة). طلبت المساعدة لهذه الأسرة وللآخرين. ذكرت أيضا اسم القائد العسكري في رسالتي وقدمت معلومات حول الأسر الأخرى التي لم يتم دفن جثامين أقاربها وأكلتها الحيوانات. طلبت منهم وقف تلك الأفعال اللاإنسانية والهمجية. أرسلت رسالتي والوثائق الأخرى أيضا إلى مستشاريهم. لم يرد أحد. لا أحد!
هذه ليست الحالة الوحيدة. في أغسطس الماضي، سأل أيكان إرميز، عضو البرلمان عن حزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد، في البرلمان عن جثة امرأة عضو في حزب العمال الكردستاني تُركت بالقرب من قرية جونيجام في إقليم شرناق. لم يسمح الجنود وميليشيا الحرس الأهلي للقرويين بدفن الجثة. لقد تركت على الأرض وأكلتها الحيوانات. كان القرويون يريدون دفنها حتى لا يراها أطفالهم أثناء ذهابهم إلى المدرسة كل يوم.
وجثث أعضاء حزب العمال الكردستاني التي يتم نقلها إلى المستشفيات مشكلة أخرى. فلا يوجد في المنطقة سوى قلة قليلة من الأئمة الذين يقدرون على غسل تلك الجثث والصلاة عليها. قابلت هؤلاء الأئمة وكتبت عن الوضع عدة مرات. قال لي أحد الأئمة إنه في البداية كان يتعب عندما يرى تلك الجثث. بلا رأس، وأعين منزوعة، وآذان وأعضاء تناسلية مقطوعة، وكانت هناك شواهد على التعذيب. وأضاف “لكن بعد ذلك، أدركت ما يمكن أن يفلعه البشر ببعضهم بعضا”.
لم تتأثر بتلك الوحشية جثث القتلى فقط، وإنما تأثرت أيضا جثث من دفنوا بالفعل في مقابر حزب العمال الكردستاني. فخلال العامين الماضيين تعرضت مقابر حزب العمال الكردستاني للقصف أو التدمير. في بعض الأحيان تفتح السلطات التركية قبور أعضاء حزب العمال الكردستاني وتزيل الجثث. قبل نحو ثلاثة أشهر، تم استخراج 267 جثة ونقلها من مقبرة غاريزان في بيتليس. تقدم الأهالي بطلبات إلى رابطة حقوق الإنسان التي أعدت تقريرا مفصلا حول مقبرة غاريزان.
قال ليزغين بينغول، والد عضو في حزب العمال الكردستاني تم استخراج جثمانها، لوكالة (إيه.إن.إف) الكردية للأنباء:
“ذهبت إلى المقبرة في 20 من ديسمبر. وجدت أن قبر ابنتي لم يكن موجودا. تم تدمير القبر وجرى استخراج عظم ابنتي وأخذه. لم يبق شيء من القبور في المقبرة. عندما نظرت حولي، وجدت كل القبور على نفس الحال. قدمت التماسا إلى رئيس مكتب النائب العام في بيتليس في 21 ديسمبر 2017. كنت أريد أن أعرف ماذا حدث لجثة ابنتي ورفعت دعوى جنائية ضد المسؤولين عن ذلك. كنا بالفعل قد دفنا ابنتي بعد الحصول على تصريح الدفن والنقل من معهد الطب الشرعي. تم فتح تحقيق ضدي أنا وزوجتي فيما يتصل بالدفن بعد ذلك”.
تتنافى تلك الممارسات مع القوانين التركية والدولية. وبموجب القانون التركي، لا يجوز تدمير أو تدنيس المقابر. ووفقا للمادة 5237 (الفصل 8) من القانون الجنائي التركي، يعاقب من ينبش القبور بالسجن ما بين ثلاثة أشهر وعامين، كما يعاقب من يخرب المقابر بالسجن بين عام وأربعة أعوام.
تلك الممارسات تتعارض أيضا مع إعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان (المادة 3) واتفاقيات جنيف، والتي وقعت عليها كلها تركيا. ومن بين الأركان الرئيسية للقانون الإنساني اتفاقيات جنيف، حيث توضح المادة الثالثة (المادة المشتركة في الاتفاقيات الأربع) حدود الأفراد المتصارعة في النزاعات المسلحة وتحظر تماما التشويه البدني والمعاملة القاسية والتعذيب والقتل بجميع أشكاله.
في القرن الحادي والعشرين، ما زلنا نتحدث عن الحق في الدفن بشكل كريم. الحق الذي تكفله كل المعتقدات والأديان. الحق الذي تحميه كل الدساتير والقوانين. الحق في أن يكون المرء إنسانيا، جزءا من الإنسانية. نحن اليوم في تركيا نكافح من أجل هذا الحق. قلبي يعتصر ألما وأنا أكتب الآن وأفكر في جثث الموتى التي تلتهمها الحيوانات في مناطقنا الريفية.
تركيا لا تحارب “الأحياء” فقط من الأكراد لديها، وإنما تحارب من ماتوا منهم أيضا.
وبينما تقاتل تركيا الأكراد الموتى، فكيف لها أن تصنع السلام مع الأحياء منهم؟