التصنيفات
ahvalnews مقالات

الكلل يخيم على ديار بكر وسط احتجاجات مناوئة لتعيينات الحكومة | أحوال تركية

ثمة رجل يجلس على الدرج أمام السوق يرفع قبضته اليسرى ويحاول الصراخ، والناس المحتشدون أمام السوق يهتفون له ويهللون. هذا الرجل الأصم يحاول بكل ما أُوتي من قوة أن يعبر عن معارضته للمديرين الذين عينتهم الحكومة لإدارة الحكومات البلدية في عدد من المدن ذات الأغلبية الكردية في تركيا هذا الصيف.

ويقول ممثل عن حزب الشعوب الديمقراطي تعليقا على هذا الرجل: “يا ليت الجميع يستطيعون أن يرفعوا أصواتهم مثله”.

نحن في شارع ليسه، على الجانب الآخر من مبنى مجلس بلدية مدينة ديار بكر، للمشاركة في الاحتجاجات المناوئة للمديرين المعينين من الحكومة.

هذه الاحتجاجات تبدأ كل يوم في حوالي الساعة الحادية عشرة صباحا، وتحاوطها الحواجز على جانبي الشارع الذي يعج بقوات الشرطة والدبابات ومدافع المياه في كل صباح.

يجلس الناس أمام ما يشبه جيشا صغيرا من قوات الشرطة. ساعات قليلة تمر، تتخللها الأغاني والشعارات التي ترتفع بها أصوات الحشد – أغان رائعة. هناك الكثيرون من غرب تركيا قد جاءوا لإبداء تضامنهم مع الاحتجاجات. التقيت بزوار من مؤسسة حقوق الإنسان في تركيا، والمؤسسة الطبية التركية، وأكاديميون من أجل السلام، وغيرهم. وعلى كل من يريد التحدث بحرية أن يتوجه إلى المنصة المفتوحة التي جرى إنشاؤها ليقول ما يشاء. وتنتهي احتجاجات كل يوم بإصدار البيان الصحفي في حوالي الساعة الواحدة ظهرا.

يشارك ما بين 100 و200 شخص في هذه الاحتجاجات. وعلى عكس التوقعات، فإن حجم الاحتجاجات لا يتغير كثيرا. وعلى الرغم من أن عددا كبيرا من الحاضرين هم من داخل حزب الشعوب الديمقراطي، ثمة محامون وأطباء وممثلون عن منظمات غير حكومية وبعض من عامة الشعب يشاركون فيها أيضا. ويشارك في تلك الاحتجاجات كل يوم أعضاء بالبرلمان وقادة حزبيون ورئيس بلدية ديار بكر المنتخب سلجوق مزركلي الذي أقيل من منصبه.

ويبدو أن الاحتجاجات ستستمر لفترة أطول. كانت هناك خطط إضافية لتنظيم سلاسل بشرية في مناطق شتى من المدينة، لكن تم رفض إصدار تصريح لهذه المظاهرات. كما كانت هناك أيضا تظاهرات منسقة يطفئ فيها السكان المحليون الأنوار ويضيئونها في وقت واحد أثناء الليل، ولكنها توقفت بعدما تبين عدم جدواها.

وخلال الاحتجاجات، يمكنك الاطلاع على أحدث الأخبار بخصوص الأحداث الجارية في أنحاء المدينة. تتمثل القضية الرئيسية المطروحة للنقاش حاليا في الأسر التي تقول إن حزب الشعوب الديمقراطي أخذ أبناءهم إلى الجبال لضمهم إلى صفوف المتمردين الأكراد. من بين القضايا محل النقاش أيضا ما إذا كانت الحكومة المركزية ستعين إدارات لقيادة الحكومات المحلية، ويتوقع الكثيرون المزيد من التعيينات في الفترة القادمة.

كما تشمل القضايا المطروحة الأزمة الاقتصادية وحظر التجول الذي يدخل عامه الرابع في منطقة وسط ديار بكر، وما إذا كان ينبغي لحزب الشعوب الديمقراطي أن ينسحب من البرلمان فضلا عن محاكمة الرئيس المشترك السابق لحزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرطاش الذي يقبع في السجن.

وفي الوقت الذي تتجادل فيه المدينة بخصوص هذه المسائل، يتواصل المدير الذي عينته الحكومة لتولي مهام رئيس البلدية مع المنظمات غير الحكومية والشركات ويدعوها إلى زيارة الحكومة البلدية. ولعل الهدف من ذلك على الأرجح هو التقاط صور لتلك الزيارات وإضفاء الشرعية على إدارته.

ولا يخفي أنصار حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي عيّن هذه الإدارات انزعاجهم أيضا. فقد تحدثت إلى شخص عبّر لي بصراحة عن استيائه، وقال: “إذا كان الناس يؤيدون (المعينين من قبل الحكومة) لكانوا صوتوا لصالحهم في الانتخابات”.

صحيح أن المدينة تشهد حالة من الفوضى، وتنتشر الشرطة والاحتجاجات في كل مكان فيها، إلا أن صراعات الحياة اليومية تظل مستمرة وسط الفوضى، ويعود الطلاب إلى المدارس لبدء السنة الدراسية الجديدة. ولكن ما من أحد تقريبا يضع أي خطط للمستقبل.

فغالبا ما تركز الخطط الموضوعة للأمد الطويل على مغادرة المنطقة. ذلك أن سكانها قد أنهكتهم الحرب والفوضى، ووصلوا إلى نقطة الانهيار جراء الحرب الحضرية التي دارت رحاها في العامين 2015 و2016 بين الحكومة التركية والمسلحين الأكراد.

لقد انهارت المعنويات من رؤية مشاهد الحرب والموت على عتبات الأبواب، ومن التفجيرات والدمار والعجز عن إعطاء إجابة وافية لمن يسأل عن السبب وراء حدوث هذا كله. لا يزال الشعب يحاول تأكيد إرادته، بيد أنه أصيب بالإنهاك والكلل الشديد، ويريد أن يرى بشائر خير على التغيير.

تحدثت إلى شاب قال لي: “لقد تعبت. أود أن أرى بشائر خير، أن أكون مثل أقراني العاديين. أود أن أذهب إلى دور السينما وأتجول في المتنزهات وأقع في الحب وأعيش بحرية. لكن الحكومة والمجتمع لا يسمحان بحدوث ذلك. أبلغ من العمر 21 عاما فحسب، لكني قد أُنهكت بالفعل”.

كما تحدثت إلى طبيب ينوي المغادرة أيضا. ويقول: “نقاوم منذ سنوات. لكنني أدرك الآن أن الأشخاص المنتجين لا يُقدرون حق قدرهم في هذا المجتمع. كل ما يتوقعونه منك هو الهتاف بالشعارات. الجميع غاضبون. وبدلا من أن يصبوا جام غضبهم على الدولة، يهاجمون بعضهم البعض. الدولة مشكلة كبيرة بالطبع، لكنني سئمت من هذا المجتمع وهذه المدينة أيضا”.

كان هناك شخصان يجلسان بجواري في الاحتجاجات يتحدثان؛

يقول أحدهما: “أعتقد أن الحشد ضئيل جدا”.

“بالنظر إلى كل الاعتقالات والضغوط الحكومية، أظن أن هذا حشد جيد.

“كان من الممكن أن يدهسوننا بدباباتهم في تسعينات القرن العشرين، لكن عشرات الآلاف كانوا سيظلون يخرجون إلى الشوارع للاحتجاج. هذه ليست مجرد مسألة ضغوط حكومية. بل إننا فقدنا الأمل الذي كان يحدونا في التسعينات”.

وفوق تلك الأصوات، يبقي الرجل الذي علمت أن اسمه فرزنده مقصود، والشهير باسم “لالو”، قبضته مرفوعة ويصرخ بكل قوته في الاحتجاج. وما كان للحشد إلا إن يرد عليه بالتصفيق الحار.