التصنيفات
مقالات

الفظائعُ المقترفة بحقّ المرأة تظهر استمرار ذهنية داعش

كان يوما شتويا باردا حين التقيت بها في عام 2015. كانت تقيم في مخيم الإيزيديين في شرناق بجنوب شرق تركيا، الذي أُنشئ في الأصل ليكون مسكنا لعمال المناجم قبل أن يصير واحدا من أكبر مخيمات الإيزيديين. فحين جاء الإيزيديون إلى تلك المساكن المخصصة لعمال المناجم، أقيمت الخيام لتوفير مساكن إضافية.

معظم الإيزيديين الذين فروا من مجزرة تنظيم الدولة الإسلامية ووصلوا إلى تركيا نقلوا أولاً إلى هذا المخيم، ثم جرى توزيعهم على مخيمات أخرى في المنطقة. ثمة ما يقرب من 4500 إيزيدي كانوا يقيمون في المخيم. بل كان هناك مركز مخصص للأطفال الإيزيديين تزينه الألوان.

تفقدت أنا ومسؤولو المخيم جميع الخيام لمعرفة احتياجات سكانها. كما أجريت لقاءات مع بعض النساء الإيزيديات. فبعد عبورهم الجبال للوصول إلى تركيا، كان الإيزيديون يحسبون أنهم بمجرد اجتيازهم تلك الجبال سيستطيعون ركوب الطائرات المتجهة إلى أوروبا.

لقد ظنوا أن أوروبا بانتظارهم. ولم يكل مسؤولو المخيم من توضيح أن نصف سكان شرناق لم يستقلوا الطائرات بعد، وأن أوروبا لا تنتظرهم وهي فاتحة ذراعيها بالترحيب. لم يكن هناك أفضل من الصبر دواء في تلك الأيام.

التقيت بها في أحد المساكن. كان المبنى من الداخل مظلما ورثا، تجلت فيه الشقوق بجميع أرجائه. ذهبت إلى غرفة في الطابق الثاني من المبنى بها رجلان متقدمان في العمر وامرأتان وثلاثة أطفال، يرقد أحدهم في مهده، وآخر ملقي على الأرض، بينما كان الثالث يجوب الغرفة.

تجمعت الأسرّة في أحد أركان الغرفة. وفي ركن آخر، رأيت أسطوانة غاز صغيرة تُستخدم في تسخين مقلاة. وعلى سماط مبسوط بأرضية الغرفة، وُضع خبز التنور الذي كانوا يملؤون به وعاء.

كانت المرأة في الأربعينات من عمرها. ومجرد أن وقعت عيناها علي، بدأت في الصراخ والبكاء. كانت ترتدي تنورة بنية اللون وقميصا أسود وغطاء رأس أبيض. امرأة جميلة تميل بشرتها إلى السمرة. أخذ صوتها يرتجف، وامتلأت عيناها بالدموع، تحاول أن تقول لي شيئا ولكن لا تستطيع.

اسمها إيدي.. كانت تبكي وتقول “لقد قطعوا رأس طفلتي”. قالتها مرارا وتكرارا.. “لقد قطعوا رأس طفلي”. إنها ابنة منطقة “شمال” القريبة من سوريا، وبلدتهم اسمها كوهبل.

حين أتى متشددو تنظيم الدولة الإسلامية إلى كوهبل، قتلوا جميع الرجال وأخذوا كل النساء والفتيات. كانت أسرة إيدي تملك سيارة، ومن ثم تمكنت من الهرب. لكن حين علم ابنها بأن من بقوا قد قطعت رؤوسهم، قرر العودة لإنقاذ كبار السن. وفي طريقه للعودة، وقع في أسر تنظيم الدولة الإسلامية وقطع رأسه.

يعرض تنظيم الدولة الإسلامية الرؤوس المقطوعة على حساباته بمواقع التواصل الاجتماعي. حين قابلتُ إيدي، كانت تقيم في هذا المخيم مع زوجة ابنها غولي وأطفالهما الثلاثة الذين بلغوا من العمر عامين ونصف، وعاما ونصف، وشهرا واحدا، وينتظرهم مستقبل لا تتضح ملامحه.

لقد قتلوا الآلاف واغتصبوا ألوف النساء الإيزيديات وباعوهن في أسواق السبايا. بل إن كثيرا من النساء ممن يتجاوزن سن الأربعين قد دفنّ أحياء بدعوى أنه لا فائدة منهن. هذا العنف وجد دعما من بعض الحكومات، فمنها ما منح متشددي تنظيم الدولة الإسلامية إمكانية عبور حدودها بسهولة، ومنها ما غض الطرف عن أسواق السبايا داخل بلادها.

بعض الأطفال الإيزيديين الصغار تم بيعهم في أنحاء واسعة. والعالم يقف موقف المتفرج..

مرت أربع سنوات على ارتكاب تلك الفظائع، على الإبادة الجماعية. وكل الدول والحكومات التي دعمت هذه الأعمال الوحشية والإبادة الجماعية، تلك التي فتحت حدودها، وغضت الطرف عن تجارة الرقيق داخل حدودها، وتعاملت مع تنظيم الدولة الإسلامية، لم تخضع للمحاكمة بعد. غير أن التنظيم لم يرتكب هذه الأفعال وحده.

وفضلا عن العملية البطيئة الخطى التي تجري في الأمم المتحدة، لم تُفرض أي عقوبات أو أحكام ملموسة على الدول والحكومات التي دعمت تنظيم الدولة الإسلامية، في حين يواصل التنظيم مهاجمة النساء وخطفهن. وفي الآونة الأخيرة، قتل التنظيم حوالي 200 شخص في هجوم على سويدي، واختطف مجموعة من نساء الدروز. ولم يكتف بذلك، بل أرسل صورا إلى أسرهن بعد اختطافهن. ولا يزال العالم يقف موقف المتفرج…

إن تفاصيل الفظائع التي ارتكبها هؤلاء القتلة تظهر أن دوافعهم ليست دينية فحسب، بل تتعلق كذلك بالاستيلاء على الممتلكات، ووضع الناس في الأغلال، وإقامة نظام، فضلا عن الغزو والنهب والاستعباد. ولا تخلو تلك الدوافع أبدا من تحقيق مكاسب مادية حسبما تقتضي سياسة البراغماتية..

لم يقتصر الأمر على الإيزيديات فحسب، بل إن كثيرا من النساء غير السنيات وقعن ضحايا لهذه الوحشية. نساء الآشوريين والكلدان والمسيحيين والأكراد والتركمان والعلويين والشيعة والدروز.. هؤلاء النساء لم تعد لهن حياة. فلا منازل لهن، ولم يعد أطفالهن في مهادهم، وموائدهن أضحت خالية من الطعام، وأحباؤهن قد رحلوا.

إن هذه الجريمة ضد الإنسانية التي ارتكبت في القرن الحادي والعشرين تنطوي أيضا على فظائع كالاسترقاق والاغتصاب والتعذيب الجنسي الممنهج.

منذ أنشأنا المنظمة قبل ثلاث سنوات، يكافح برنامج النضال من أجل النساء الأسيرات كفاحا مستميتا لضمان العثور على النساء اللائي وقعن في أسر تنظيم الدولة الإسلامية وإعادة تأهيلهن، ومحاكمة مرتكبي الإبادة الجماعية.

كما تعكف منظمتنا على الاعتراف بالثالث من أغسطس، اليوم الذي بدأت فيه الإبادة الجماعية، باعتباره “اليوم العالمي لمكافحة جرائم قتل النساء وإبادتهن الجماعية”.

في الحقيقة، لن يتسنى للمرأة أن تتمتع بالحرية طالما بقيت عقلية تنظيم الدولة الإسلامية. وستظل الضبابية تكتنف مستقبل بنات بلاد الرافدين، من الإيزيديين والكلدان والآشوريين والدروز، طالما بقي فكر هذا التنظيم… فلب المسألة هو محاربة تنظيم الدولة الإسلامية وفكره في كل مكان.

من دون إهدار المزيد من الوقت، ينبغي للدول الديمقراطية والمنظمات الدولية، لاسيما المحكمة الجنائية الدولية، أن تتخذ إجراءات بحق الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها هذه العقلية. ولطالما لم يتم التعامل مع أنصار هذا الفكر بجدية، لن يعيش الغرب أو الشرق في أمان، ولن تمنع أي اتفاقية هجرة اللاجئين من عبور البحر المتوسط سعيا للوصول إلى الغرب.

دعوني أختتم مقالي بكلمات أسرة إيزيدية كانت تستعد للفرار إلى أوروبا من جنوب غرب تركيا، والتقيت بها منذ عامين في مخيم ديار بكر الإيزيدي قبل أن يُغلق بقرار حكومي. كان خوف هذه الأسرة من الحكومة، والذي أججه الخطاب الحكومي المناوئ للإيزيديين، جعلها على يقين بأنها ستتعرض للقتل إذا بقيت في تركيا. كان فرارها عبر إيجة محفوفا بمخاطر جمة، وحاولنا إثناءها عن السفر. وقبل أن يغادر أفراد الأسرة قالوا لي:

“السيدة نورجان، نفضل أن نكون طعاما للسمك على أن نموت بهذه الأرض وبتلك الطريقة”.

آمل أنهم لا يزالون على قيد الحياة. لكن الواقع يقول إنه طالما يغمض العالم عينيه عن تنظيم الدولة الإسلامية وعقليته، سيظل هؤلاء الناس يجدون أنفسهم مضطرين للتنقل من مكان لآخر، وسيواصلون ذلك حتى الموت.