التصنيفات
مقالات

“السلام” بات اليوم محظورا في تركيا!

 تلقيت الليلة الماضية اتصالا من صديقة لي كانت نائبة في البرلمان التركي لسنوات وسياسية ذائعة الصيت. سألتني ما الذي ستكون بحاجة إليه في حال إذا ما اعتقلت. والأسبوع الماضي جرى اعتقالي بسبب تغريداتي المعارضة للحرب في عفرين، والآن من المتوقع أن تعتقل هي الأخرى. أبلغتها أن تعد حقيبة صغيرة بها منشفة ومداس للقدم وفرشاة أسنان ودواء وملابس ثقيلة للتدفئة.
بعد ذلك تلقيت اتصالات مشابهة من أشخاص آخرين يتوقعون الاعتقال بسبب معارضتهم للحرب.

لكنني لا أعتقد أن “مطاردة الساحرات” هذه ضد محبي السلام ستنتهي بالاعتقال فقط، فقبل أيام قليلة قال المذيع علي شانتورك على قناة كرال تي.في الغنائية خلال حديثه بين عروض الأغاني إن “الشرطة يجب أن تطلق النار على من يعارضون الحرب في عفرين سواء كانوا برلمانيين أو رجال أعمال أو صحفيين”.
وفي برنامج ترفيهي آخر شهير، استهدف مذيعوه 170 من المفكرين كانوا قد وقعوا خطابا ضد الحرب في عفرين. وخلال البرنامج قرأ مقدمو البرنامج الخطاب جملة بجملة مع صور الموقعين. وصف المذيعون هؤلاء المفكرين بأنهم “خونة” وقالوا إن أولئك الخونة لا يستحقون العيش في هذا البلد، ويجب طردهم من البلاد. وأُنهي عقد عمل إحدى الموقعات من قبل الجامعة التي كانت تعمل بها بسبب ذلك الخطاب.
وجرى تدشين حملة على موقع “change.org” ضد هؤلاء “الخونة” المئة وسبعين لسحب الجنسية التركية من “محبي الإرهاب” هؤلاء. أنا أيضا واحدة من هؤلاء “الخونة” الذين وقعوا الخطاب ولا أعرف بالفعل أين يمكنني أن أذهب. هذا بلدي وهذه أرضي وهذا منزلي ولا أريد الرحيل. ونعم، أنا ضد الحرب!
قبل أيام قليلة، أصدرت نقابة الأطباء الأتراك (تي.تي.بي) بيانا عاما وصف الحرب بأنها “مشكلة صحية عامة” وانتقد القتال في عفرين. بعد ذلك بيومين، وبعد أن وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأطباء بأنهم “محبون للإرهاب”، بدأت تهديدات باستخدام العنف ضد النقابة. وصباح يوم الثلاثاء الماضي، داهمت شرطة مكافحة الإرهاب التركية منازل 11 عضوا من أعضاء النقابة، وكان من بينهم رئيس النقابة الدكتور راشد تُوكَل وأعضاء آخرون من اللجنة المركزية للنقابة. أحد هؤلاء الأطباء هو شيخوس غوكالب، وهو أحد ممارسي المهنة المعروفين وصديق لي شخصيا. اقتادوه من منزله في ديار بكر وأرسلوه إلى أنقرة. وبعد يوم واحد من اعتقاله، فصل من وظيفته في البنك المركزي بديار بكر.
كان رد الفعل هذا مخيفا للناس لدرجة أسكتتهم. لكن السكوت ليس آمنا أيضا، إذ يتم استهداف الفنانين ونجوم السينما والمغنيين والكتاب الذين يسكتون عن الحرب. يحدث ذلك في برامج الأخبار والترفيه على حد سواء، إذ يواجه هؤلاء انتقادات لامتناعهم عن قول أي شيء من شأنه تأييد سياسات الحرب الحكومية. فسكوت هؤلاء هو إقرار بتأييد السلام وقد يكونوا أيضا “خونة”.
كتب ياسين أقطاي، وهو برلماني ينتمي لحزب العدالة والتنمية، في مقاله بصحيفة (يني شفق) يوم الأحد يقول “أن تكون ضد الحرب، فهذه أيديولوجية هي الأكثر نفاقا وخداعا وتضاربا في العالم”.
إننا جميعا سجناء في تركيا. وفي هذا السجن “السلام” يساوي الإرهاب. كل يوم يتم الزج بمنتقدي سياسات الحكومة في السجون أو إجبارهم على مغادرة البلاد. كل مكان يبدو مظلما بلا نور وبلا أمل. قبل أيام قليلة فقط كنا كلنا أمل.
في أبريل 2013 زرت منزلا في حي فقير بديار بكر، وكان في ذلك المنزل امرأة وولدها الصغير. كانت عملية السلام بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني قد بدأت لتوها. وبينما كنا نتحدث عن عملية السلام، كان أزاد (واسمه يعني “حرية” باللغة الكردية) ابن السابعة وقتها يلعب بكرة على الأرض. كانت هناك صورة لصبي صغير على الحائط هو ابن عائشة الأكبر جيان (ومعنى اسمه بالكردية “حياة”) العضو في حزب العمال الكردستاني المحظور. كانت عائشة تعتقد أن ابنها جيان سيعود عندما يحل السلام. كانت تعتقد أنها سترى ابنها في غضون عام وكان كلها أمل يبدو بريقه في عينيها.
وبينما كنا نتحدث عن “السلام”، ترك أزاد الكرة وجاء ليسأل هذا السؤال: “أمي ما هو السلام؟” كان ذلك الصبي الصغير يعتقد أن السلام شيء سيعيد شقيقه الذي لم يره أبدا ويعرفه فقط من صورته ومن دموع والدته، فالسلام عنده يعني عودة شقيقه. وبلغته التركية الضعيفة قال لي “السلام سيأتي، وأخي سيأتي”.
لم يستطع أخيه العودة، فربما لم يعد على قيد الحياة. وما زال أزاد ينتظر السلام.
انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي أمس الأول رسم كاريكاتوري يظهر امرأة تقول لابنها “سافيس سافيس تعال إلى الوطن”. ومعني كلمة “سافيس” بالتركية “الحرب”. نظر الصبي الصغير إلى والدته وسألها “امي لم تنادينني بسافيس؟ إسمي ليس سافيس، أنا إسمي “باريس”، وهو اسم ينادون به الصبيان ومعناه “سلام” باللغة التركية. لقد كانت تخاف حتى أن تقول “سلام”.
اليوم صار “السلام” محظورا في تركيا.


*As published on Ahvalnews on 05.02.2018