قبل بضعة أيام، خطا الطفلان نوبيلدا ابنة السنوات الأربع وأياز غول أوغلو البالغ من العمر عشر سنوات فوق ألغام أرضية بينما كانا يتوليان أمر رعي الماشية في مدينة ديرسيم في جنوب شرق تركيا.
يحدث هذا كل شهر، إذ يصاب أطفال أو يقتلون جراء الألغام ومخلفات الأسلحة المستخدمة في القتال المستمر منذ ثلاثة عقود بين قوات الأمن وعناصر حزب العمال الكردستاني في جنوب شرق البلاد.
هذا الشهر مثلا، تعرض الطفل عصمت كيليج لإصابات بالغة حين انفجر جسم في يده.
وعلى مدار عقود، لم تتوقف الألغام الأرضية والذخيرة المتفجرة عن حصد أرواح أطفال أكراد أو إصابتهم.
ووقعت غالبية هذه الإصابات بسبب عجز الأطفال عن تمييز الأسلحة من الألعاب ومن ثم يهمون بالتقاطها.
تُعرف الألغام الأرضية على مستوى العالم بأنها الأكثر غدرا بين جميع الأسلحة، ومن ثم حظرها القانون الدولي. فالألغام الأرضية لا تسأل عن أوراق هوية، ولا تفرق بين عدو وطفل يبحث عن لعبة ليلهو بها.
إنها أدوات قتل لا ترى بين ضحاياها فارقا.
وتتسبب عوامل موسمية، كهطول الأمطار أو هبوب الرياح في تغيير طبيعة التربة، ومن ثم ظهور الألغام الأرضية على السطح.
ونتيجة لذلك، يحدث كثيرا أن يتغير موقع لغم مدفون في باطن الأرض لينتقل إلى منطقة أخرى بفعل قوى طبيعية.
ولسنا بحاجة للتذكير بصعوبة استعادة لغم أرضي بعد دفنه في باطن الأرض، ناهيك عن الوقت المهدر في ذلك.
لا تعرف الألغام كذلك فارقا بين وقت السلم أو وقف لإطلاق النار أو هدنة. بل حتى إن انتهت حرب وحل السلام، لا تتوقف الألغام عن حصد الأرواح، إذ تظل هذه الأجسام نشطة لفترة تصل إلى قرن كامل.
واليوم هناك ما يزيد على مئة مليون لغم أرضي تم زرعها في 64 بلدا في مختلف أنحاء العالم.
وفي أوائل تسعينات القرن العشرين، دشنت المجموعة الاستشارية للألغام حملة حصلت بموجبها على جائزة نوبل للسلام وكانت نتيجتها أن تم عام 1999 تبني “معاهدة حظر استخدام وتخزين وإنتاج ونقل الألغام المضادة للأفراد واتفقت على تدميرها”، وهي المعاهدة التي تعرف على نطاق واسع باسم اتفاقية أوتاوا.
وتلزم الاتفاقية الدول الموقع عليها بالتخلص من مخزوناتها من الألغام خلال أربعة سنوات، ومن الألغام الموجودة في الحقول خلال عشر سنوات.
ووقعت على الاتفاقية مئة وست وأربعون دولة، بينها تركيا التي وقعت عليها عام 2003 وصادقت عليها في مارس من العام التالي.
وأفاد تقرير صدر عن مجموعة مراقبة الألغام الأرضية عام 1999 إن الحكومة التركية زرعت 936663 لغما أرضيا بين عامي 1957 و1998.
وقال التقرير إن الحكومة التركية ورعت وخلال الفترة بين عامي 1989 و1992 فقط 39 ألف لغما أرضيا في محيط مراكز الشرطة والمباني الأمنية في شرق البلاد وجنوبها الشرقي.
وخلال تسعينات القرن العشرين، أقدمت الحكومة على زرع ألغام مرة أخرى في قرى تم إخلاؤها من السكان عملا على درء المقاومة الكردية بغرض منع الناس من العودة لمنازلهم.
حزب العمال الكردستاني، الذي يقاتل القوات التركية منذ منتصف ثمانينات القرن العشرين، استخدم هذه الأسلحة القاتلة بدوره بدرجة لا تقل عن القوات التركية.
وفي يوليو عام 2006، أعلنت منظمة “نداء جنيف” أن حزب العمال الكردستاني قد وقع من جانب واحد على اتفاقية تحظر استخدام الألغام المضادة للأفراد، لكنه لم يحظر استخدام المتفجرات التي يتم التحكم فيها عن بعد، لكن وسائل الإعلام في تركيا عادة ما تخطئ التمييز بين الشيئين.
ودفعت الحكومة التركية بأنها لم تعلم مسبقا بأمر هذه الاتفاقية، وبأنها تمت على عكس رغبة تركيا. ونتيجة لذلك اعتبرتها أمرا غير مقبول.
وتشير بيانات مصدرها منظمة “نداء جنيف” أن حزب العمال الكردستاني، ومنذ توقيع الاتفاقية، لم يستخدم الألغام المضادة للأفراد، لكنه استخدم متفجرات يتم التحكم فيها عن بعد.
وبما أن هذه المتفجرات مصنفة باعتبارها هجوما يستهدف أجساما بعينها، فإن هناك فارقا بينها وبين الألغام الأرضية من المنظور القانوني.
واليوم هناك في تركيا نحو مليون لغم أرضي. وهناك كذلك ثلاثة ملايين لغم آخر في مستودعات التخزين يفترض أم يتم التخلص منها.
ومن بين جميع الموقعين على اتفاقية أوتاوا، فإن تركيا هي أكثر البلدان امتلاكا للألغام المضادة للأفراد. وتملك تركيا حدودا برية تمتد لنحو ألفي كليومتر، كثير منها بها الكثير من الألغام الأرضية المزروعة.
وأكثر المناطق التي توجد بها تلك الألغام المرزوعة تمتد لمسافة 600 كيلومتر مع سوريا.
وفي عامي 1975 و1996، أنشأ البرلمان لجنة للتحقيق في عمليات إزالة الألغام الموجودة بطول الحدود.
وفي كل مرة، أوصت اللجنة بضرورة تطهير المنطقة من الألغام.
وأقر “قانون الألغام” عام 2009، حيث وضع سياسات من أجل إزالة الألغام من الحدود السورية، لكنه لم يتطرق لا للحدود مع إيران ولا مع العراق، ولا مع الألغام الموجودة في مناطق أخرى داخلية.
وفازت إحدى الشركات بعقد لتطهير الحدود السورية من الألغام عام 2000، لكن لم يتحقق الكثير من التقدم.
أكثر المخاطر على المدنيين في تركيا من الألغام الأرضية لا توجد على الحدود، بل في مناطق البر الرئيسي.
وتحدث غالبية الإصابات والوفيات الناجمة عن الألغام في مناطق داخل الحدود.
وحين تجددت الاشتباكات بين القوات التركية والمقاتلين الأكراد عام 2015، لم يتم التخلص بالشكل الملائم من الأسلحة المتروكة بعد هذا القتال، وبدأت بالتالي تشكل خطر محدقا على المدنيين، خاصة الأطفال.
لم تعتبر تركيا إزالة الألغام أو بقايا الأسلحة من الأولويات. وتلزم اتفاقية أوتاوا بإزالة جميع الألغام بحلول عام 2014.
وعجزت تركيا عن الوفاء بهذا الموعد وطلبت تمديده، والآن يتعين عليها إزالة جميع الألغام الموجودة داخل حدودها بحلول عام 2022.