الأسبوع الماضي كنت التقيت بعض السفراء في إحدى البعثات الأجنبية، وقد نقلوا إلي أنهم التقوا بأحد الأكاديميين في ديار بكر، وقال لهم إن صلاح الدين دميرطاش وليس أردوغان هو من عطَّل اتفاق “دولمه بهتشه” للمصالحة.
لقد كانوا مندهشين تمامًا. كانوا يسألونني بحيرة واستغراب كيف يؤمن أكاديمي بشيء كهذا، بينما كل شيء يحدث هكذا على مسمع ومرأى من العين. تبسمت إليهم، وقلت لهم “لقد دخل هؤلاء الناس في دوامة؛ حتى إنهم غضوا الطرف عن ظلم الدولة وقمعها، بل صاروا ينتجون الأكاذيب ويصدقونها. وإلا فإنه من المستحيل بالنسبة لهم البقاء نفسيًّا ومعنويًّا.”
لا ريب أن هذا الأكاديمي ليس النموذج الوحيد في هذا. فهناك العديد من الأشخاص الموالين لحزب العدالة والتنمية الذين التقيتهم في ديار بكر بدءًا من المنشغلين في دنيا الأعمال وصولًا إلى الأكاديميين أصبحوا يرددون الأشياء نفسها على ألسنتهم. إنهم مشغولون على نحو دائم بتكرار وترديد الأشياء ذاتها للمجتمع الكردي وللقادمين لزيارة المنطقة من الخارج وللمؤسسات الدولية:
“إن السبب في كل شيء هو هذه الخنادق”، و”لقد شن الحرب حزب العمال الكردستاني”، و”لقد عملت البلديات للتخلص من الخنادق”، و”صلاح الدين دميرطاش هو من علق اتفاق “دولمه بهتشه” للمصالحة ، و”حزب العمال الكردستاني هو من ألقى دميرطاش في السجن”، و”الدولة تعيد إنشاء مدينة “سور”، ولقد رفعت تلك الأقذار، وستأتي مكانها “سور” رائعة”، و”هل كانت هناك خدمات سليمة ونافعة قبل مجيء الوصيّ الحكوميَّ؟”، و”لقد انتهى الإرهاب، وها هي “سور” تنهض على قدميها”.
أجل، صحيح كانت هناك خنادق. غير أنه كان من الممكن أن تكون هناك أشكال مختلفة تمامًا من اجل التغلب على مشكلة الخنادق. لقد جعلت الخنادق ذريعة لهدم مدينة “سور”. لقد دمرت مدن: سور وجزرة وشرناق ويوكسك أووا ونصيبين وسلوان. لقد جعلت الخنادق حجة تم من خلالها اقتحام منازلنا، وقتل الناس، وتركت جثثهم عارية في الساحات والشوارع، وانهار الناس بين أصوات “القصف والدمار”.
وبينما كانت جميع آثار الدمار التي وقعت في هذه المدن في وضع يمكن معه إعادة إعمارها بعد انتهاء العمليات العسكرية، ومن ذلك مثلًا أنه بينما كان هناك دمار نجم عن المعارك التي دارات في بضعة شوارع من “سور”، قامت الدولة بهدم نصف المدينة إثر العمليات العسكرية، وسوَّتها بالأرض. وبذلك صار نصف “سور التاريخية” البالغ عمرها 7000 سنة شيئًا من العدم حاليًا. وتم نسفُ 70% من شرناق، وأُزيل نصف نصيبين. وتشرد مئات الآلاف من الناس، ولجأوا إلى أماكن شتى.
بالطبع ارتكبت الحركة الكردية أيضًا أخطاءً في هذه المرحلة. وقد كان من الممكن أن تكافح بصورة أقوى حتى لا تصل الأمور إلى هذه النقطة، كان من الممكن أن تتصرف بفاعلية أكثر في نقل الحقائق وعرضها. كانت تستطيع أن تدخل وتنفذ سياسات مختلفة في مدن: يوكسك أووا وشرناق ونصيبين على الأقل بعد ما حدث في جزرة وسور، وبعد أن رأت وجه الدولة الحقيقي وعدم توازنها واعتدالها. فهل كانت تستطيع أن توقف كل هذا الدمار؟ لست أدري. غير أنه لم يحدث، لقد تعذر حدوث ذلك.
حسنٌ؛ فهل كان ينبغي أن يكون هذا هو أسلوب “التصدي” للخنادق الذي اتبعته الدولة التي نرتبط بها برباط المواطنة أو لنقل اتبعه حزب العدالة والتنمية الذي أصبح هو الدولة!
حظر تجوال مفروض منذ شهور وسنين، وقصف مدن يعيش فيها مئات الآلاف من الناس بالمدافع والدبابات، وتجويع للناس وقطع للمياه عنهم، وترك لجثث الموتى في الأرض والطرقات شهورًا، وإطعامها للطيور والذئاب، وتمثيل بالجثث والعديد من الجرائم الإنسانية التي لن أستطيع حصرها…
هل كان الخيار الوحيد أمام الدولة من أجل التعامل مع مثل هذه المشكلة هو الموت والحرب والدمار؟ بالتأكيد لا. لقد رفضت الدولة جميع الخيارات الأخرى ضاربة بها عرض الحائط.
واختارت الموت، اختارت الحرب، اختارت الدمار.
وثمة كردي آخر مرضيٌّ عنه، إنه متين أر كان قال “لن نسمح أبدًا بحدوث أي ضرر لأي أخ كردي على الإطلاق طالما بقينا في السلطة.” إنه يقول هذا بينما لا تزال هناك قبور لم تُعرف أسماء أصحابها في مقبرة الأطفال في جزرة. يقول هذا بينما لا تزال هناك عشرات الجثث تعذر تشخيصها والتعرف عليها في المشارح نظرًا لأنه تم إحراقها بصورة مفجعة.
يقول هذا بينما لا تزال هناك أمهات يبحثن ولو عن جزء من أبنائهن بالرغم من مرور عامين ونصف على فقدهن إياهم. يقول هذا بينما لا يزال حظر التجوال مفروضًا في بلدي منذ حوالي ثلاثة أعوام!.
إنه لا يخجل أبدًا، لأنه لا خيار أمامه سوى تصديق ما يقوله بنفسه وإقناع الآخرين بقوله. وإلا فإنه يعلم أنه شريك في كل هذه الجرائم التي تُرتكب، ولا بد أنه سيُحاكم عنها يومًا ما. لقد صار التصرف مثل الظالم طريق الهروب الوحيد بالنسبة لهم.
غير أنه لا مفرّ أمامك أيها “الكردي المرضيُّ عنه!” فلن نعفو عن مرتكبي هذه المظالم ولا عن أمثالك ممن يشوهون الحقيقة ويتسترون على الظلم والقمع الذي يمارس ضد أبناء جلدته. لن يكون حسابنا مع مرتكبي هذه المظالم فحسب، بل وأيضًا مع من يشوهون الحقيقة في هذه المرحلة المرعبة.
ربما يكون “الرجل الأبيض” يملأ جيبك بالأموال اليوم أو أنه يمسك بيدك ويساندك، ولكن عليك أن تعلم أنك لا تساوي شيئًا في عيون الناس، ولو حتى بقدر نكلة مما في جيبك من النقود.
أعلم أنك تخاف أيها الكردي المرضيُّ عنه! الحقيقة أن هناك عصابة على عينيك، وقيد في قدميك، وكمامة في فمك… ولكن بقي القليل، سوف تنكشف الحقيقة، وتصل مكانها.
بعد أن أنهيت المقالة كان هناك خبر يتم عرضه في وكالة أنباء “مزابوطامية: بلاد الرافدين” مصحوبًا بصورة لفتاة شابة كانت عيناها تتراقص فرحًا، ورد في الخبر:
“بعد أكثر من عامين فحسب تم التعرف على هوية ماردين جلبي البالغة 16 عامًا، والتي كانت بين من فقدوا حياتهم في (بدروم) الطابق السفلي حيث ظلت محبوسة فيه طيلة فترة حظر التجوال المفروض في جزرة.”