التصنيفات
مقالات

أمهات تركيات: نريد رفات أبنائنا وأزواجنا المختفين

“أن تكون قادراً على أن تحتضن أجسادهم التي فارقتها الروح، أن تعانق تلك الأجساد، فهذا أمر مختلف. لا بد أنه شعور له مذاق خاص أن تعانق ذلك الجسد غير النابض بالحياة، أن تحمله في رحلته الأخيرة إلى مثواه.. أؤمن بأن وجود قبر يسكنه الجسد يوفر قدراً من الاحتواء والسكينة؛ أن تعرف أن الجسد يرقد في هذا المكان؛ تزور القبر فتحكي همومك لمن قد رحل عن عالمنا، وتبكي لساعات عند ذاك القبر. كل تلك أمور لم تتسنّ لنا. في النقاشات التي تدور حول الاختفاء القسري، يقول بعض الناس إنهم لا يهتمون لما سيحدث لهم بعد الموت، وإن مسألة أين سترقد أجسادهم بعد الموت ليست بالأمر المهم؛ لكنها في الحقيقة مسألة مهمة. من المهم أن تكون لأحبابنا الذين فارقوا عالمنا قبوراً نزورهم فيها. ومن يفتقدون هذا منا يفتقدون السكينة والاحتواء”.

كانت تلك كلمات زينب، تلك المرأة الكردية التي وقع زوجها ضحية للاختفاء القسري في تركيا خلال تسعينيات القرن الماضي. نشرت كلماتها في تقرير بعنوان “رَفْع الصورة الفوتوغرافية” نشره مركز ذاكرة العدالة للحقيقة في إطار جهود هي الأولى من نوعها للتركيز على زوجات المختفين قسرياً من أجل بحث موضوع انتهاكات حقوق الإنسان المتمثلة في الاختفاء القسري من منظور يتعلق بالمرأة.

يركز هذا التقرير الذي قرأته عدة مرات على الزوجات اللائي تركها ضحايا الاختفاء القسري وراءهم في تسعينيات القرن الماضي، حيث كان معظم هؤلاء الضحايا رجال. يسلط التقرير الضوء على معنى أن تكون امرأة ما زوجةً لرجلٍ مختفٍ. كيف تمكنت تلك النسوة من الصمود بعد أن ترملن وتُركن وحدهن لمسؤولية رعاية أطفالهن؛ وكيف كن يبحثن عن أزواجهن المختفين وأحبتهن، إن كن قد تمكَنَّ أصلا من البحث عنهم؛ وكيف مرت بهن الأيام؛ وما الثمن الذي دفعنه.. ثم كيف تأقلمن مع كل مشاعرهن المكبوتة”.

وبصفتي من بين من فقدوا أحبة، وإن كانوا من غير الأقارب المقربين، وكان ذلك في تسعينيات القرن الماضي، تعلمت بمرور الزمن أن الكلمات لا يمكنها أبداً أن تكفي لوصف الشعور تجاه المختفين. في التسعينات، كان شبابنا مقروناً بالحزن والأسى في عيون من فقدوا أحبتهم. وهناك من لم يقبلوا بالتعازي، وواصلوا البحث وحملوا المجارف وانطلقوا يبحثون في الأنهار والجبال.

يمر الوقت، لكن كل شيء في المنزل يظل على ما هو عليه، بحيث إذا عادوا يكون كل شيء مألوفاً لهم. الأطفال يكبرون والعجائز يرحلون، لكن الحياة تظل واقفة عند تلك اللحظة. إن الدنيا دار شقاء؛ وقد تصل فيها إلى مرحلة يكون غاية أمنياتك أن تحصل على قطعة من رفات.

كان ذلك هو ما قالته نازي ليَ ولصديقي الطيب طاهر ألشي عندما استضفناها لدى عودتنا من بروكسل إلى ديار بكر في مايو عام 2014. تحدثت نازي عن زوجها حكمت شيمشك ووالد زوجها حمدو شيمشك، اللذين اختفيا قسريا في عام 1993. وقالت “نريد اعتذاراً عن جميع جرائم القتل التي لم يُكشف عن ملابساتها، وكيساً فيه رفات”. ولم تعثر نازي على رفات زوجها وأبي زوجها، ولم تتلق أيضاً اعتذاراً من الحكومة. وبعدما انضم طاهر، وكان محامياً كردياً معنياً بحقوق الإنسان، إلى قائمة ضحايا جرائم القتل التي أُغلقت التحقيقات فيها دون معرفة ملابساتها، فقدت نازي كل الأمل في هذا البلد، ولم تعد تريد أن تطأ قدميها هذه الأرض مرة أخرى.

وهناك اثنتان أخريان عزيزتان على قلبي، وهما شقيقتان اسماهما ياشيم وداريا. جاءت الأختان من النرويج حاملتين مجارف في صيف عام 2014 للبحث عن رفات أبيهما. وقد تحدثتا إلى سكان القرية لتحديد الأماكن التي من المرجح أن تكون رفات أبيهما مدفونة فيها؛ ونظراً لأنهما لم تعودان تثقان في الحكومة التركية، فقد كانتا تحفران من تلقاء نفسهما عندما التقيت بهما. قلت لياشيم “لا نهاية لهذه التربة التي تحفرون فيها”، وردت قائلة “الحياة على هذا النحو صعبة. على مدى العشرين سنة السابقة، لم يمر يومٌ من دون أن نفكر في أبينا.

“كنا نفكر دائماً في أنه ربما يكون حياً، وأنه قد يعود في يوم من الأيام. إذا عثرنا على رفاته ونقلناه إلى مثواه الأخير في مكان لطيف، سيرقد في سلام وسنرتاح نحن. هل يمكنك أن تصدقي السعادة التي تبعثها فينا رفات موتانا؟ سنجد الكثير من السعادة إذ كان باستطاعتنا أن نجد رفاته”. وقد فقَدَت الأملَ أيضا في هذا البلد.

وعلى الرغم من أن أحداً لا يريد أن يتحدث عن الأمر، ففي السنوات الثلاث الماضية، أضيفت رفات جديدة إلى رفات تسعينات القرن الماضي. وعلى الرغم من أن أحداً لا يتحدث، أو يكتب عن ذلك، أو يُقر به، هناك العديد من المقابر التي لا تحمل اسما في جبّانة جيزري. وعلى الرغم من أن ثلاث سنوات قد مرت، لم تتحدد هُوية أصحاب الرفات. وفي غازي عنتاب، وأرضروم وديار بكر.. جنوب غربي تركيا، كانت الأمهات تنتظر خارج منشآت الطب الشرعي للحصول على خُصلة من شعر أطفالهن.

التقيت قبل عامين في جيزري بواحدة من هؤلاء الأمهات، وكانت تنحدر من إسكي شهر. كانت السيدة تبحث عن أي شيء من أثر ابنها الذي كانت آخر مرة تسمع فيها صوته عندما اتصل بها عبر الهاتف وقال لها “سأساند أهل جيزري في كفاحهم”. تريد تلك الأم أن تحصل على رفات ابنها إن كان قد مات. ولم يسمع الناس توسلات أمه ولا توسلات غيرها من الأمهات، ولا يريدون أن يسمعوهن.

يعيش في هذا البلد آلاف الأشخاص الذين ينتظرون لأسابيع، وحتى لسنوات، لكي يحصلوا على حفنة من العظام. وعلى مدى 700 أسبوع، كانت أمهات السبت يلتقين كل يوم سبت في وسط إسطنبول ليرفعن أصواتهن على أمل أن يجدن رفات أطفالهن وأزواجهن وأمهاتهن وآبائهن. طوال 700 أسبوع تملأ احتجاجاتهم الفراغ الذي خلفته أجساد أحبتهنّ الغائبة.

ويتعرض أقارب الأشخاص الذين اختفوا في الحرب التي ظلت دائرة طوال السنوات الثلاث الأخيرة للكثير من الضغط حتى يتمكنوا من تنظيم هذا الاحتجاج؛ ويجري تجاهل جثامين أحبتهم واعتبارها لا شيء.

فإلى الآن، تلك الجثامين – أو الرفات – لا وجود لها، وهي مختفية لن يراها أحدٌ أو يسمعها. ولا تُلق وسائل الإعلام – سواء التابعة للحكومة أو المعارضة – بالاً لهؤلاء الأمهات. وتجاهُل هؤلاء الأمهات اللاتي يبحثن عن أثر لأطفالهم، وتجاهل هذه الجثامين المفقودة، يعد تجاهلاً لأمر يشفي صدور الأمهات الثكالى؛ وأي شخص يمس رفات المختفين سينكوي بالنار جزاء بما اقترفته يداه. تلك الأجساد والرفات تهمس في آذاننا؛ تهمس من جبانة جيزري أحياناً؛ وتهمس من تحت بناية جديدة تُقام في سور في أحيان أخرى؛ وفي بعض الأوقات، قد تهمس تلك الأجساد والرفات من رأس رافعة في نصيبين.

في تسجيل مصور جرى إعداده للأسبوع السبعمائة، تقول سيدة من أمهات السبت تُدعى صبرية مالتو “إذا كانوا موتى، فنحن نريد رفاتهم. هذا كل ما في الأمر”.

وهذا هو كل ما في الأمر!