التصنيفات
ahvalnews مقالات

آمد.. مدينة المشاعر والذكريات المنسية

كان يوما باردا ومُشمساً في ذات الوقت، في ديار بكر، أو كما تُعرف باسمها الكردي “آمد”. في ساعة الغداء من كل يوم، آخذ قسطا من الراحة من العمل وأتمشى إلى سور، تلك المدينة القديمة الواقعة في قلب آمد. وأثناء السير، أمرّ على مدرسة ليسه الثانوية عند ناصية شارعنا. وبالأمس، كان الطلاب يقفون في الخارج، يضحكون ويتبادلون الحديث عند الناصية. وعلى الرغم من ذلك، عندما أنظر إلى ناصية الشارع أتذكر دوما نفس الشيء؛ ذلك الشاب الذي قُتل عند تلك الناصية في تسعينات القرن العشرين.

لقد مرت 25 سنة، وأنا لا أزال أرى صورته وهو ملقي على الأرض غارقا في بركة من الدماء. وجدت نفسي أسير باتجاه الطلاب كي أقول لهم: “من فضلكم لا تمشوا هنا، فثمة شخص ملقي على الأرض هنا”. ثم أتوقف. ماذا أفعل؟ هذا الأمر لا يعني لهم شيئا. فهؤلاء الأطفال لا يعرفون التسعينات.

بعد شارع ليسه، أدخل مدينة سور القديمة من ميدان داغ كابي. كان شارع سراي كابي على يساري. عبرت الشارع ودخلت منطقة إتشكالي. كانت إتشكالي هي المركز الإداري للمدينة حتى خمسينات القرن الماضي. والآن أصبحت حيا أثريا.

وقبل ثلاث سنوات، قام الوصي الذي عينته الحكومة محل رئيس بلديتنا المنتخب ببناء متنزه رائع تزينه الزهور والأشجار ويضم عددا من المقاهي. كان هناك الكثير من الناس في المتنزه. الأطفال يلعبون وكبار السن يحاولون التمتع بأشعة الشمس. أناس كثيرون يلتقطون الصور ومن خلفهم يجري نهر دجلة. إنه متنزه رائع، ولكنني أكرهه. وسألت نفسي، لماذا أكره هذا المتنزه الجميل.

وقتما تقع عيناي على هذا المتنزه، أتذكر ما فقدناه هنا. فقبل هذا المتنزه، كان هناك حي يعج بالمساكن. تم هدم هذا الحي بعد حظر التجوال الذي فُرض خلال العامين 2015 و2016. حين أقف في المتنزه، لا تستطيع عيناي أن ترى الأزهار الجميلة، ولا الأشجار. كل ما أستطيع رؤيته هو ما يكمن أسفلها، أنقاض تلك الحياة التي كانت تنبض هناك.

بالقرب من المتنزه، يمكن الوصول إلى منطقة حظر التجوال، حيث أسير عبر الحواجز في الشوارع الضيقة في سور. مررت على شخصين ينظران تجاه منطقة حظر التجوال. كانا يحاولان النظر إلى مبنى مدرسي تاريخي. أخذا يتحدثان عن مدى جمال هذا المبنى. نعم إنه مبنى عتيق وجميل. ولكنني مرة أخرى أرى شيئا مختلفا. شاب يدعى حقان أرسلان يُقال إنه دُفن في حديقة مبنى المدرسة. لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره حين قُتل يوم الثاني والعشرين من شهر يناير من العام 2016 خلال العمليات العسكرية في سور. لم يتم العثور على جثته حتى الآن.

بعد أن علم والده بأن ابنه دُفن في حديقة هذه المدرسة، تقدم الأب علي رضا أرسلان إلى مديرية ديار بكر عدة مرات بطلب تصريح لدخول منطقة حظر التجوال للبحث عن جثة ابنه. غير أن طلبه قوبل بالرفض. كتبت عن هذا الأب العجوز وابنه بضع مرات، ولكن شيئا لم يتغير. رفضت مديرية ديار بكر الحفر في المنطقة. وكلما أنظر إلى المبنى التاريخي الجميل لهذه المدرسة، أتذكر الأب علي رضا ومعاناته وآلامه.

أواصل السير باتجاه مقهى ديار بكر (ديار بكر كافيه هاوس). وفي طريقي أمرّ على المنارة ذات الأعمدة الأربع. رأيت بعض السياح من غرب تركيا. كانوا يلتقطون صورا تحت الأرجل الشهيرة للمنارة. وما أن رأيت هذا المشهد إلا وأُصبت بالصدمة، فقد كنت أريد أن أصرخ في وجوههم وأقول: “لا يجوز لكم التقاط صورة سياحية هنا. فالأخ طاهر يرقد هنا”.

كان طاهر ألجي رئيس نقابة المحامين في ديار بكر وصديقا لي. وقد اغتيل تحت أعمدة المنارة في شهر ديسمبر من العام 2015 أثناء الاشتباكات وحظر التجول العسكري. فكيف لأحد أن يلتقط صورة وهو يبتسم هنا؟ كيف للناس أن ينسوا طاهر بعد خمس سنوات فقط؟ أنّى لهم ذلك؟ وأصابني الاكتئاب الشديد.

دخلت مقهى ديار بكر بقوة وقد علت وجهي حمرة الانفعال، وحاولت تهدئة نفسي. وبينما أتناول قطعة من الخبز المحمص، ألقيت بعيني على المنطقة المهدمة، أنقاض سور. يمكنك أيضا رؤية بعض أجزاء من كنيسة سرب غيراغوس الأرمنية، أكبر كنيسة أرمنية في الشرق الأوسط.

أُعيد فتح الكنيسة في العام 2011 بعد تجديدات كبيرة مولتها بلدية ديار بكر والمجتمع الأرمني. جاء مئات الأرمن من شتى بقاع الأرض لحضور الافتتاح. كان حدثا كبيرا. وبعد حظر التجول العسكري، تعرضت الكنيسة للدمار والنهب. أتذكر القصص التي كانت ترويها جدتي عن جيرانها الأرمن، وكيف قُتلوا في بداية القرن العشرين. من ذا الذي يتذكر هذه الإبادة الجماعية اليوم؟ ماذا نتذكر عن جيراننا الأرمن اليوم؟ لا شيء، لا شيء!

عندنا مقولة كردية تقول: “آمد، مدينة الذكريات والمشاعر”.

على مدى السنوات القليلة الماضية، لم نفقد ذكرياتنا فحسب، بل مشاعرنا أيضا. في الآونة الأخيرة، كنت مع رئيس بلدية سابق. روى لي قصة رجل صادفه وهو يتمشى. وقال الرجل: “يا رئيس البلدية، أنتم (الحركة الكردية) أردتم منا أن نخرج في مسيرة. وخرجنا. أردتم منا أن نغلق محالنا احتجاجا. وفعلنا. أردتم أبناءنا. وقدمناهم. فما الذي يمكننا تقديمه أكثر من ذلك؛ لم يتبق لدينا شيء”.

هذا الرجل ليس سوى واحد من كثيرين استنفدوا مشاعرهم. ظلت كلماته ترن في أذني لعدة أيام. وحين أنظر إلى الأنقاض والفيلات الجديدة قيد الإنشاء التي تقام في غير مكانها في المنطقة المهدمة، ينتباني الخوف من أننا نفقد ذكرياتنا أيضا. كم من الناس سيتذكرون سور القديمة في السنوات القادمة؟ أبنائي لن يعرفوها.

أخشى ما أخشاه أن آمد، موطني الذي أعتز به والعاصمة غير الرسمية للأكراد، لم تعد مدينة الذكريات والمشاعر.

 

– الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعكس بالضرورة رأي “أحوال تركية”.