بعد مرور عام على زيارتي الأخيرة، عدت إلى مدينة نصيبين على طول الحدود التركية مع سوريا. اكتملت إلى حد ما الإنشاءات الجديدة التي بنتها وكالة الإسكان العامة الحكومية التركية. لا تزال هناك نقاط تفتيش عند مدخل المدينة. تشبه نصيبين موقع البناء العملاق حيث تتناثر الحفر وترفرف الأعلام التركية في كل مكان.
فبعد انهيار وقف إطلاق النار الذي استمر لعامين في صيف عام 2015، اندلعت اشتباكات بين قوات الأمن والحركة الشبابية لحزب العمال الكردستاني، الذي أقام أعضاؤه حواجز في مدن في مختلف أنحاء جنوب شرق تركيا الذي تقطنه أغلبية كردية استجابةً لإعلان قادة الحركة الحكم الذاتي بعيداً عن الحكومة المركزية.
وابتداءً من مارس 2016، تم فرض حظر تجول لمدة 24 ساعة استمر 134 يوماً في نصيبين. ولمدة ما يقرب من عام بعد انتهاء العمليات العسكرية في المدينة في شهر يوليو، كان من المستحيل دخول ستة أحياء من أكثر أحياء المدينة اكتظاظاً بالسكان. لقد دمرها الصراع الحضري وإعادة التطوير اللاحقة وجرى تطويقها بأسلاك شائكة. إن الصورة الأكثر وضوحا التي لدي في ذلك الوقت، عندما زرت نصيبين بشكل متكرر، هي الأمهات اللائي ينتظرن على طول هذه الأسوار من أجل جثث أطفالهن الذين لاقوا حتفهم في المعارك.
وبقدر ما قد تم تقسيم نصيبين إلى قسمين: نصيبين تحت حظر التجول ونصيبين دون حظر التجول. تم تدمير هذه الأحياء الستة، التي تمثل ما يقرب من نصف المدينة، أمام سكان نصيبين الذين كانوا ينتظرون خارج الأسوار يوماً بعد يوم. فُقدت بعض جثث أطفالهن تحت الحطام، ولم يتم العثور عليها أبداً. وتم العثور على جثث أخرى فقط أثناء تشييد المساكن.
لم تعد الأسوار قائمة الآن ولم يعد الحطام هناك. لقد تم استبدالها بمباني وكالة الإسكان العامة الحكومية العقيمة، والتي ترتفع وسط المتنزهات والحدائق. من الصعب تصديق ما حدث هنا في السنوات القليلة الماضية. اللمحات الوحيدة على ذلك الماضي القريب تتمثل في ثقوب الرصاص التي ما زالت مرئية على بعض أبواب وجدران الحي.
تحيط المساحات الخضراء والملاعب بمساكن وكالة الإسكان العامة المكونة من أربعة إلى خمسة طوابق والتي توفر حوالي خمسة آلاف وحدة سكنية، ومع ذلك لم يتم تسليم مفاتيح الشقق بعد. تطلب الدولة رسوماً إضافية من العائلات التي دُمرت منازلها. العائلات تشكو وتشعر بالاستياء بسبب الرسوم الإضافية التي طلبتها الحكومة، فضلاً عن صغر حجم الوحدات السكنية. بالنظر إلى متوسط عدد أفراد الأسرة في نصيبين وهو من 8 إلى 10 أفراد، فإن وحدات وكالة الإسكان العامة ليست كبيرة بما يكفي لاستيعابهم.
يعيش الناس في نصيبين بشكل عام في منازل واسعة بها حدائق، والانتقال من هذه المنازل إلى تجمعات سكنية أمر صعب. يثير السكان قضية أخرى تتمثل في أن جميع العاملين الذين سيعملون في الشقق، بمن فيهم حراس الأمن والسباكون وعمال الكهرباء وغيرهم، ستقوم الدولة بتعيينهم. هذا يثير قلق العائلات التي من المفترض أن تنتقل إلى الشقق السكنية. وقال أحد أفراد هذه العائلات “الآن تحاول الدولة السيطرة علينا من خلال وكالة الإسكان العامة”.
مصدر آخر للألم للجميع هو حقيقة أن الجثث دُفنت تحت الشقق. وقال شخص آخر من المقرر أن ينتقل إلى الشقق الجديدة “نحن لسنا سعداء بشقق وكالة الإسكان العامة، ولكن ليس لدينا أي خيار آخر”.
ولم يتضح بعد عدد القتلى الذين سقطوا خلال المعارك. أبلغتني السلطات الكردية التي أزورها أن حوالي 100 شخص من نصيبين، بينهم 20 إلى 25 من المدنيين، فقدوا أرواحهم، لكن لا أحد يعرف عدد الجنود وضباط الشرطة الذين ماتوا. يقول البعض إن 80 إلى 85 ضابطاً فقدوا حياتهم.
كان عدد سكان المدينة حوالي 115 ألفاً قبل الاشتباكات، ولكن عددهم الآن يبلغ نحو 104 آلاف. ومن بين 45 ألف شخص غادروا أثناء حظر التجول، هناك 11 ألفاً لم يعودوا بعد. ويقيم آخرون في البلدات القريبة، في حين انتقل عدد قليل منهم إلى غرب تركيا أو فروا إلى الخارج.
وبعد أن حكمها مسؤول حكومي عينته الحكومة المركزية خلال العامين ونصف العام الماضيين، باتت المدينة في حالة خراب. وكان المسؤول يخشى زرع القنابل تحت الأحجار المرصوفة وقد تم حفر جميع الشوارع وجرى استبدال الأحجار المرصوفة بالإسفلت. ثم جرى تكسير هذا الإسفلت لتثبيت أنابيب الصرف الصحي. الحفر موجودة في كل مكان، والغبار يغطي كل شيء.
كنت أتنقل عبر هذا الغبار والأوساخ لزيارة الأسر التي فقدت أطفالها. انهم سعداء جدا برؤيتي. لم يزرهم أحد لفترة من الوقت. سأحكي قصصهم بشكل منفصل، لأنهم يريدون أن تُسمع أصواتهم. لكن ما سأقوله الآن هو أنه على الرغم من مرور أكثر من ثلاث سنوات على الاشتباكات في نصيبين، فإن بعض العائلات ما زالت تنتظر جثث أطفالها، أو تعمل من أجل الحصول على شاهد قبر لأحبائهم.
معظمهم لا يستطيعون الوصول إلى المساعدة القانونية أو الدعم. لم يستمع أي شخص لأصواتهم من قبل ولا تزال تمر مرور الكرام. كل شخص أزوره يريد التحدث من أجل أي يروي قصته. ما زالوا يبحثون عن إجابات عن السؤال، “لماذا مات أطفالنا؟” ينتقدون الدولة، وكذلك الحركة الكردية. قال لي أحد الآباء متسائلاً:
“بعد أن تم تدمير مدينة أولى، ثم مدينة ثانية، لماذا لم يتوقفوا عند الثالثة؟” وأضاف “إذا كانوا قد تراجعوا في تلك المرحلة، فإن الحركة الكردية تكون متقدمة بثلاث خطوات إلى الآن. لقد مات الكثير من الأطفال، ومع ذلك ما زال الرجل يقول إن الحكم الذاتي يجب أن ينتصر. لا يخرج أحد للاعتراف بأنهم ارتكبوا خطأ أو يعتذر”.
لقد تُركت عائلات كثيرة في نصيبين بمفردها. توقفت الحياة عند اليوم الذي فقدوا فيه أطفالهم وأحبائهم ومنازلهم.
كما أخبرني أحد السكان المحليين “الجميع يواصلون حياتهم، لكن نصيبين لا تستطيع”.