تمر خمس سنوات على تلك الذكرى المشؤومة في مدينة سنجار، حين أفاق مئات الآلاف من الإيزيديين من سكان المدينة الواقعة في شمال العراق على واحدة من أبشع الهجمات على الإطلاق.
يومها احتلت عناصر تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي المدينة حيث أجبروا أكثر من 300 ألف من الإيزيديين على الفرار من ديارهم. يومها قتل الإرهابيون الآلاف بينما أصبح الآلاف غيرهم من النساء والأطفال سبايا لديهم.
بعد خمس سنوات، لم يعد الكثير مما عاناه الإيزيديون في ذلك اليوم، الذي يطلقون عليه وصف “المرسوم 73″، خافيا على أحد: مذابح، سبي للنساء، جميع صنوف التعذيب، والاغتصاب، والإتجار بالبشر ودمار المجتمع.
لكن جرائم داعش لم تقف عن هذا الحد ولا يزال هناك الكثير مما لم يستحوذ على ما يكفي من الاهتمام. جرائم أقل شهرة كتلك التي عرّفتها منظمة العفو الدولية في تقريرها لشهر ديسمبر عام 2018 بعنوان “الأرض القاحلة: ما أعمله تنظيم الدولة الإسلامية عمدا في مزارع العراق.”
يتضمن التقرير تفاصيل عن بساتين أضرم فيها داعش النيران في المدينة الإيزيدية، وعن نهب الماشية والآلاف في المزارع، وكيف أحالوا مزارعهم إلى أرض بور.
الزراعة وروافدها هي الموارد الأساسية للإيزيديين. وتحتل سنجار موقعا في السهول الجنوبية لجبل شنكال، وتعاني السهول من نقص موارد المياه.
وإلى الجنوب يمر نهر سولاك وهو مجرى مائي صغير نسبيا بالنسبة للسكان، لذا يتعين على أهل سنجار سحب المياه من الآبار.
باختصار، الزراعة وموارد المياه هي عناصر بالغة الأهمية لحياة الإيزيديين وللحياة في سنجار بشكل عام.
كان إرهابيو داعش يعرفون هذا ويعونه تماما، واستهدفوا بشكل مباشر المناطق الزراعية لمنع الإيزيديين من العودة.
يسرد تقرير منظمة العفو الدولية كيف صب الإرهابيون مخلفات البناء والزيوت ومواد أخرى في آبار سنجار واستولوا على مضخات المياه أو عطلها، وكذلك فعلوا بمولدات الكهرباء والمحولات والكبلات.
هذا غير دمار البساتين وكبلات نقل الكهرباء وزرع الألغام في حقول الإيزيديين.
تحدث هادي، وهو مزارع في الأربعينيات من العمر أدلى بإفادته في التقرير، إلى منظمة العفو الدولية عن “الدمار التام” الذي كان شاهدا عليه حين عاد إلى الحقول في جنوب جبل شنكال.
قال هادي “كان لدي بئر، كان عمقه 220 مترا، وكذلك كنت أمتلك مولدا ونظاما للري بالأنابيب. لقد ألقوا بمخلفات البناء في بئري، ملأوه عن آخره.”
وأضاف “اقتلعوا أشجار أيضا، كان بوسعي أن أرى آثار عملية قطع الأشجار بمنشار كبير. لقد سُرق نظام الري، سرقوا كل شيء من المضخة إلى الأنابيب.”
وتابع “قاموا بكل هذا ليبعثوا لي برسالة: لا شيء لك هنا لكي تعود إليه، لذا إن أردت أن تنجو بحياتك، فلا تفكر في العودة مطلقا.”
والماء أحد أخطر الأسلحة في الشرق الأوسط. ولهذا السبب سارع تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي باستهداف آباء سنجار وتدميرها.
هذا الأسلوب ذاته استعملوه في سوريا أيضا، حيث سعى الإرهابيون للوصول إلى موارد المياه والآباء والأنابيب قدر الإمكان وتدميرها.
كانوا يعرفون أن من يسيطر على المياه في هذا المناخ الجاف للمنطقة سيضع يديه على موارد الحياة. وبتدمير موارد المياه، كانوا يمحون كل أثر للحياة، وبشكل كامل.
وفي بعض الحالات كالهجوم الذي شنوه على سد الفلوجة، استخدم إرهابيو داعش المياه حرفيا كسلاح في مواجهة خصومهم المسلحين.
في بعض الحالات الأخرى، جعل إرهابيو تنظيم الدولة الإسلامية المياه غير قابلة للاستخدام في المنطقة، حيث لوثوها بغرض قتل كل أثر للزراعة.
وفي حالات أخرى، أغرقوا الأراضي بغرض قتل المزروعات.
وبالسيطرة على تدفق المياه، كانت لهم مرة أخرى اليد الطولى في المناطق التي هاجموها والشرعية باعتبارهم حكامها.
وبالتالي حين سيطر الإرهابيون على مدينة الموصل العراقية وبسطوا هيمنتهم على مواردها المائية وسدودها وتولوا بأنفسهم توزيع المياه على السكان، كانت النظرة إليهم في البداية باعتبارهم فاتحين محررين.
اليوم في سنجار، توقفت الزراعة بشكل كامل أو تكاد. ويعني هذا ببساطة نهاية الحياة في المنطقة بالنسبة لكثير من الإيزيديين.
ويقول تقرير منظمة العفو الدولية إن نحو سكان المدينة ممن كانوا فيها قبل احتلال داعش لها قد عادوا.
وتعد أحوال الزراعة بلا شك أحد أهم الأسباب التي قد تدفع النصف الآخر من السكان للعودة.
لكن داعش رحل مخلفا وراءه دمارا واسعا يصعب تدارك آثاره في القطاع الزراعي. فالبذور غير موجودة، وكذلك موارد المياه والماشية، فكيف يمكن للإيزيديين استعادة حياتهم؟
لقد دعت منظمة العفو الدولية الحكومة العراقية والمنظمات الدولية لتقديم الدعم وإنشاء برامج للتنمية الرعوية في المناطق التي دمرها تنظيم الدولة الإسلامية وإلى تحمل المسؤولية.
يقول التقرير إن المساعدة على توفير الغذاء والمياه والعمل يجب أن تتواصل، ليس فقط لمن يعجزون عن العودة إلى ديارهم، بل أيضا لمن يواجهون مشاكل في العودة للزراعة.
ويتحدث التقرير بصفة خاصة عن ضرورة تأمين موارد المياه من أجل زراعة المحاصيل.
يقول التقرير “في هذا الخصوص، يعد الوصول إلى موارد المياه هو الحلقة المفقودة التي تعيق الفلاحين عن ممارسة حقهم في العيش والعمل والقدرة على العودة إلى ديارهم ومزارعهم.”
ويضيف “لقد وضع العراق رسميا خطة لإعادة الإعمار عام 2018. وتضم الخطة تقييما لمدى الدمار الذي لحق بالقطاع الزراعي وحدد التكلفة المقدرة لإصلاحه على مدار السنوات الخمس المقبلة.
“تحتاج الحكومة لتمويل هذه الخطة ووضعها موضع التنفيذ، وتحتاج بشكل ملح لإصلاح نظام الري وغيره من الأمور المحورية في البنية الأساسية.”
ينقل التقرير عن البنك الدولي وغيره من المؤسسات الاقتصادية الدولية ويسرد آراء محللين يتحدثون عن امتلاك العراق الغني بالنفط للموارد اللازمة لتمويل عملية إعادة الإعمار هذه، لكن لم يبدأ تقريبا العمل على إحياء المناطق الرعوية.
لم يتحدث أي من الفلاحين ممن نقل التقرير كلامهم عن الحصول على أي مساعدة من الدولة. ولم تتلق المنظمات الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان أي ردود على أسئلتها في هذا الخصوص من الوزارات العراقية المعنية.
وبدون ذلك الدعم وإمكانية انطلاق عملية تعافي القطاع الزراعي، سيكون من العسير على مئات الآلاف من الإيزيديين العودة إلى ديارهم واستعادة حياتهم. وفي هذا مخاطرة بتحول سنجار وغيرها من المناطق التي ابتليت بداعش إلى أرض بور.
لقد اقترف إرهابيو تنظيم الدولة الإسلامية أشد الجرائم بشاعة من قتل واستعباد للآلاف في حملة إبادة جماعية حقيقية.
ولو سمح المعنيون بموت سنجار، ومنع الإيزيديون بالفعل من العودة إلى الديار، فإن هذا يعني ببساطة أن داعش قد نجح في تحقيق أهدافه التي سعى إليها من وراء جرائمه المروعة.
لهذا السبب يتحمل العالم بأسره مسؤولية إعادة الحياة إلى سنجار، بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ.