لم أكن أريد أن أكتب في هذا الموضوع لفرط حزني، وشدة غضبي. لا أشعر بالغضب من الدولة التركية أو السلطة الحاكمة فحسب، بل من كل شخص وكل جماعة تتمنى الموت للآخرين…
فقدنا الأسبوع الماضي شاباً، روحاً، ولداً من أبناء هذا الوطن. فارق الحياةَ معصوم باماي، الفتى البالغ من العمر 22 عاماً، الذي اعتقل في سجن الفئة (تي) في إيلازيغ، لا لشيء سوى أنه احتج على حبس عبد الله أوجلان انفرادياً، وعلى منعه من لقاء محامييه وذويه.
ظللتُ أتطلع لصورة هذا الشاب. كان فتى في ريعان الشباب. اعتقلوا معصوم إبان فترة حظر التجوال في مدينة جيزرا، وحُكِمَ عليه بعدها بالسجن لمدة 28 عامًا. تذكرتُ تلك الأيام؛ تذكرتُ جيزرا المحترقة-المُهَدَّمة التي ذهبتُ إليها بعد فترة حظر التجوال.
وقبل معصوم بعدة أيام فقدت تركيا ابناً آخر من أبنائها يُدعى سيراج يوكساك، وكان معتقلاً- هو الآخر- في سجن عثمانية لنفس السبب؛ لأنه احتج على حجز عبد الله أوجلان انفرادياً، وعلى منع الزيارات عنه تماماً.
علمتُ أن سيراج كان من بين الذين أُطلق سراحهم أثناء حظر التجول في مدينة نصيبين، ولكن ما لبث أن تم اعتقاله مع عدد آخر، وقُدموا للمحاكمة جميعاً. عندما أتطلع إلى صورة سيراج، يلوح في ذهني مشهد مدينة نصيبين أثناء فترة حظر التجوال. أتذكر رئيسة البلدية السابقة سارة كايا، التي تقبع في السجن حتى الآن.
تذكرتُ الأمهات اللاتي كنَّ ينتظرن جنازة أبنائهن بجوار الأسلاك الشائكة المحيطة بالمنطقة المحظورة. تذكرتُ مُتنزَّه موسى عنتر الذي اقتلعت جميع أشجاره. مشاهد لم تغب لحظة واحدة عن ذهني طوال ثلاث سنوات…
من هم هؤلاء الشباب الذين اختاروا أن ينهوا حياتهم داخل السجون؟
مَديا جينار ابنة الرابعة والعشرين، هي فتاة قامت السلطات التركية بالقبض عليها مع عدد آخر من الشباب عام 2015 أثناء فترة تطبيق حظر التجوال في مدينة نصيبين. وفي مايو 2016 قامت قوات الشرطة باعتقالها مرة أخرى مع 42 شاباً وفتاة آخرين. وقبل أسبوعين، فارقت مَديا الحياة داخل محبسها في سجن الفئة (إي) في ماردين.
زولكوف جيزين، اعتقل لمدة 10 سنوات، كان عمره 33 عامًا عندما فارق الحياة في 17 مارس داخل محبسه في سجن الفئة (إف) رقم 2 في تكيرداغ.
آيتن بيجيت، ابنة الأربعة والعشرين عاماً، كانت امرأةً شابةً جميلةً. قُدِّمَت آيتن للمحاكمة عام 2012 أمام محكمة الجنايات المشددة السادسة في أضنه، وحُكم عليها بالسجن لمدة تسع سنوات بتهمة “الانضمام إلى منظمة إرهابية”. وقبل ثلاثة أسابيع فقدت آيتن حياتها – هي الأخرى – في سجن النساء المغلق في جَبزَه.
لم تكن زهراء صاغلام قد تخطت سن الثالثة والعشرين عندماً وافتها المنية – هي الأخرى – يوم 4 مارس داخل سجن الفئة (تي) في أولتو. كانت زهراء قد بدأت إضراباً عن الطعام منذ 16 ديسمبر الماضي. وقد تم اعتقالها في بينغول في عام 2016.
توفيت يونجا أقيجي، المعتقلة في سجن شاكران المغلق، في 29 مارس. كانت السلطات التركية قد قامت بإلقاء القبض عليها منذ أربع سنوات. لا أعرف عمرها على وجه التحديد، ولكن يبدو من صورها أنها كانت أيضاً في سن الشباب..
وبعيداً عن السجون التركية، وبالتحديد في مدينة كريفيلد الألمانية، توفي أوغور شاكار بن الأربعين عام، متأثراً بجراحه، بعد أن أطلق النار على نفسه أمام المحكمة هناك في 20 فبراير الماضي.
وجهت ليلى غوفَن نداءً إلى المساجين قائلةً “يجب عليكم أن تتمسكوا بالحياة، ولا تستسلموا للموت!”، وأصدر حزب العمال الكردستاني- هو الآخر- بياناً مماثلاً. وعلى الرغم من هذا، لم تتوقف حالات الوفيات داخل السجون التركية، بل ويبدو أنها ستستمر في المستقبل كذلك. لا أحد يعرف كم شخصاً سنفقد من هؤلاء حتى ينهوا إضرابهم عن الطعام.
كيف كانت حياة هؤلاء الشباب، كيف نشؤوا؟ لا أحد يعرف كيف كانت حياتهم. هل دفعهم مشهد مدنهم المُدمَّرة، وموت أحبائهم، والضغوط والعنف الذي يتعرضون إليه باستمرار، إلى اتخاذ هذه القرارات؟
لا أعرف كل هذا، ولكني على يقين أنه لو كان أبناء هذا الوطن، من الأكراد والأتراك، قد ولدوا وعاشوا في تركيا أخرى، يعيشون في كنفها في ظل مناخٍ من الحرية والمساواة، لاختلف مصير هؤلاء الشباب الثمانية الآن.
لو كانت الدولة تهتم بتهيئة جو من الطمأنينة لمواطنيها الأكراد؛ ينعمون في كنفه بحياة آمنة، يحصلون فيها على حقوقهم على قدم المساواة مع باقي أبناء هذا الوطن، لاختلفت حياة هؤلاء الآن… ولما كانت مدنهم مهدمة محترقة كما نراها اليوم، ولربما كانت مَديا جينار وسيراج يوكساك يقضيان الآن يومًا رائعاً بصحبة أصدقائهما في حديقة موسى عنتر في مدينة نصيبين.
ربما أصبح زولكوف جيزين معلماً يقدم رسالته لطلابه بلغتهم الأم. من يعرف؟! ربما كان معصوم باماي يقود دراجته في هذا اليوم الربيعي الرائع على ضفاف نهر دجلة… ربما كان أوغور شاكار يتنزه بحرية الآن بين المروج في بلدته في درسيم بدلاً من حياة اللاجئين التي عاشها بعيداً عن وطنه قبل أن يلقى حتفه…
ربما كانت الزهور ستتفتح فوق قمم الجبال في بلداتهم. ربما كان الاحتفال بعيد النَّورُوز احتفالاً حقيقياً. كان أطفالنا سيذهبون إلى المدارس التي يتمّ التدريس فيها باللغتين التركية والكردية، وسيشعرون بالمساواة مع أصدقائهم من الأتراك، كانوا سيبذلون الجهد جميعاً لرفعة هذا الوطن وتقدمه. كانت الأموال، التي تذهب الآن لشراء الأسلحة، ستُنفق على تعليم أطفالنا.
ما كنتم لتقابلوا – عندما تخرجون من منازلكم – أشخاصاً يحملون الكلاشينكوف، وما كنتم لتروا الدبابات والمتاريس في الشوارع والطرقات. كنا سنعيش حياةً طبيعيةً كسائر المواطنين في بلدانهم. ربما كنا سننشغل بأمور أخرى، وما كنا لنقلق من ألا يعود أحباؤنا سالمين إلى منازلهم، أو من اعتقالهم بين لحظة وأخرى. كنا سنعيش حياةً حقيقيةً…
لو كانت السلطة الحاكمة في تركيا تعتبرنا مواطنين حقيقيين، لما سمحت بأن نعيش هذه الحياة التعيسة، وأن ينتهي المطاف بهؤلاء الشباب إلى الموت بهذا الشكل…
*الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي المؤلف ولا تعكس بالضرورة رأي أحوال تركية.
يمكن قراءة المقال باللغة التركية أيضاً: