لا يمر يوم من الأيام إلا ونطالع في العديد من وسائل الإعلام أخبارًا تتسم بالسخافة والتفاهة. ومن هذه الأخبار ذلك الذي نشرته وكالة بلاد الرافدين الأسبوع الماضي، لكن بقدر سخافته وتفاهته كان مهمًا للغاية من حيث إظهار النقطة التي وصلت لها تركيا في القضية الكردية.
الخبر الوارد في الوكالة المذكورة، كان يتكلم عن قيام قوات إنفاذ القانون بإلقاء القبض على أربعة بغال لمواطن في قرية “يَمِشلي” التابعة لقضاء “أولودَرَه” في ولاية شرناق، جنوب شرقي تركيا، وذلك بدعوى أنه كان يحمل سجائر مهربة. ولما ذهب صاحب البغال إلى المخفر لمعرفة عاقبة بغاله التي تم اقتيادها من قبل قوات إنفاذ القانون، قال له مسؤولو المخفر إنه تم اعتقالهم، وبعد الانتهاء من إجراءات الاعتقال سيتم إحالتهم إلى النيابة العامة في “أولودره” للتحقيق بشأن الواقعة.
وقبل يومٍ علمنا أن البغال سلمت لصاحبها شريطة “عدم بيعها دون انتهاء الإجراءات؛ لأن الإجراءات لم تنتهِ بعد”. ولا غرو أن هناك الكثير من الأشياء التي أخذني الفضول بشأنها في هذا الموضوع، مثل: كيف تم أخذ أقوال البغال؟ كيف تم تطبيق إجراء التوقيف والاعتقال؟ وهل عينت نقابة المحامين، محاميًا للدفاع عن تلك البغال؟؟…
ولا شك أن مثل هذه الفترات السخيفة، لم تكن الأولى التي تمرّ بها هذه البلاد، لكن لا أعتقد أنه كانت هناك فترة مثل التي نعيش فيها، قد وصل فيها كل شيء إلى نقطة الحافة والنهاية. فنحن نرى عبر تاريخ البلاد أنه كانت هناك فترات مليئة بمثل هذه السخافات؛ لا سيما تلك التي شهدت توقف عمليات السلام، وغيرها من تلك التي زادت فيها إجراءات القمع بشكل لافت ومتزايد.
ومن تلك السخافات التي نتحدث عنها، أذكر أنه في أربعينيات القرن الماضي، تم إلقاء القبض على المواطن الكردي، موسى عنتر، وضرب ضربًا مبرحًا؛ بذريعة أنه عزف بصفارة لحناً كردياً، وفي يومنا هذا ولنفس السبب أيضا هناك مطالب بسجن طلاب بجامعة دجلة بولاية ديار بكر، جنوب شرقي البلاد، لمدة تصل إلى 27.5 عام.
لا جرم أن الأكراد كانوا في أربعينيات القرن الماضي يدفعون غرامات مالية على كل كلمة كردية كانوا يتفوهون بها، وفي السنوات الأخيرة دفع العشرات منهم، ولا زالوا يدفعون نفس الغرامات؛ لأنهم يتحدثون لغتهم الكردية في المدارس والمحاكم. وإني لأتذكر جيدًا كيف كنا نخبئ في تسعينيات القرن الماضي، شرائط الكاسيت التي كانت تتغنى بالكردية. فلقد كان الاستماع للأغاني الكردية بصوت عالٍ، أمر صعب المشقة. ولا زال الأمر كذلك بل هو أصعب، إذ بالأمس يقولون إنه تم توقيف صاحب فرح، وصاحب صالة أفراح بسبب أغانٍ رددت بالكردية في منطقة “غون جُران” بمدينة إسطنبول.
لكن من المؤكد أن سياسة الدولة تجاه القضية الكردية، شهدت في بعض الأوقات صعودًا إيجابيًا. فرغم أن الكردي لم يكن في وقت من الأوقات مواطنًا مقبولًا في نظر الدولة، إلا أنه كانت هناك بعض الفترات التي قبلت فيها ببعضٍ من الثقافة الكردية.
ومن هذه الفترات التي نتحدث عنها، تلك التي شهدت افتتاح القناة الناطقة باللغة الكردية، وكذلك جعل ذات اللغة إحدى الخيارات للدراسة كلغة ثانية في المدارس (رغم أن هناك بعض المدارس التي لم تطبق هذا الأمر بشكل عملي).
لكن مع هذا لا يخلو المشهد العام من تناقضات كبيرة، ففي الصباح نجد البرامج الكردية التي تعدد إنجازات حزب العدالة والتنمية الحاكم باستمرار. فضلا عن رقص النواب العموم، وقادة الجيش، وأركان الدولة الرقصات الشعبية على أنغام الموسيقى الكردية، ويلتقطون الصور التذكارية لذلك، لكن سرعان ما يتحول الجميع لإرهابيين. وتتحول الموسيقى الكردية لموسيقى إرهابيين، بل ويزج في السجن بكل من يرقص على أنغامها. وعلى الفور تبدأ الفترات التي يعتبر الصفير فيها باللغة الكردية جريمة توجب الاعتقال والتوقيف.
وحقيقة الأمر أنه إذا كانت السياسة التركية حيال القضية الكردية تشهد منذ مئة عام صعودًا ونزولًا، إلا أن الثابت في عقل الكردي، هو أن هذه السياسة ثابتة بالشكل السلبي تجاهه. وفي مواجهة كل هذا من سياسات قمعية، وأحيانًا “انفراجات”، و”مجازر”، و”محظورات” كان الأكراد يواصلون الغناء بأغانيهم، والاحتفال بأعياد النيروز الخاصة بهم، والرقص برقصاتهم الخاصة، والتحدث بلغتهم دون أن يكلوا أو يملوا.
الأكراد كانوا لا يتنازلون عن ثقافتهم، أو لغتهم، أو هويتهم الكردية، حتى في الأوقات التي كانوا يتعرضون فيها للقمع والاضطهاد، ويعيشون فيها أزمات مختلفة، كانوا يعيشون حياتهم كما يريدون هم حتى وإن انغلقوا على أنفسهم بعض الشيء. قد يختلف الصرّاع من حيث الشكل، لكنه لا يختلف مطلقًا من حيث المطالب. فالمطالب هي كما هي لم تتغير منذ 100 عام. لم يتراجعوا ولو لخطوة واحدة عنها، وذلك لأنه لا حياة بدون تلك المطالب.
في فترة عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، “لم يكن هناك أكراد”، وفي فترة التسعينيات “كان هناك أكراد لكن لم تكن هناك لغة كردية”. وفي العام 2009 “هناك لغة كردية، لكن لا يوجد علم اللغة الكردية”. وفي العام 2015 باتت “لا توجد قضية كردية”، وفي عام 2016 “لم تكن هناك مياه للأكراد” في أقبية “جزره”. أما في العام 2018 فلم تعد هناك موسيقى كردية. بل وبات استخدام اسم “آمد” بمثابة “دعاية للإرهاب”، وأضحى البغل الكردي “إرهابيًا”!.
الأسبوع الماضي قال رئيس الوزراء، بن علي يلدريم “حل حل حل لا يوجد يا أخي”، لكن على ما يبدو أن رئيس الوزراء الذي يقول هذا الكلام بحق الكردي، لا يدرك أن النضال بالنسبة للأكراد مسألة بقاء على قيد الحياة، وصمود.
المسألة بالنسبة لهم قضية حياة تتكون من انتهاكات وخروقات بحقهم، كاعتقال البغال، وفقدان الأطفال لحياتهم بسبب نقص الماء، والزج برؤساء البلديات المنتخبين من قبل الشعب في السجون، وفرض حظر التجوال بشكل تعسفي في المدينة، وهدم المدن وتدميرها، وترك الجنائز على الأرض، وحرمان الأطفال من التحدّث بلغتهم الأم.
هذه الأيام ستمضي أيضا. وربما يبذل عشرات الآلاف من الأتراك والأكراد حياتهم. حسنًا ما النتيجة والمحصلة؟
النتيجة ستكون إصرار الأكراد على مطالبهم دون تناول عنها، سيحافظون على لغتهم، ويحمون دينهم، ويرقصون رقصاتهم، ويحمون أقارهم، ويحتفلون بالنيروز، ويختارون رؤساء بلدياتهم، وسيتناقلون أساطيرهم من جيل إلى جيل.
هناك عبارة في اللغة التركية تقول “عناد البغال”، أليس كذلك؟، ربما تفهون عن ماذا أريد أن أتكلم.
يُمكن قراءة المقال باللغة التركية أيضاً: